للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

ومَن تلاه في ذلك سالكًا أَحْسَنَ السُّنن

اعلم أنَّه لم يَزَلِ الحديث النَّبويُّ -والإسلامُ غضٌّ طريٌّ، والدِّين مُحكَمُ الأساسِ قويٌّ- أشرفَ العلوم وأجلَّها لدى الصَّحابة والتَّابعين وأتباعهم خلفًا بعد سلفٍ، لا يشرُف بينهم أحدٌ بعد حفظ التَّنزيل إلَّا بقدر ما يحفظ منه، ولا يعظم في النُّفوس إلَّا بحسب ما سُمِعَ من الحديث عنه، فتوفَّرت الرَّغبات فيه، وانقطعت الهمم على تعلُّمه، حتَّى رحلوا المراحل ذوات العدد، وأفنَوا الأموال والعُدَد، وقطعوا الفيافي في طلبه، وجابوا البلاد شرقًا وغربًا بسببه، وكان اعتمادُهم أوَّلًا على الحفظ والضَّبط في القلوب والخواطر، غير مُلْتفتين إلى ما يكتبونه، ولا معوِّلين على ما يَسْطُرونه، وذلك لسرعة حفظهم وسيلان أذهانهم، فلمَّا انتشر الإسلام واتَّسعت الأمصار، وتفرَّقت الصَّحابة في الأقطار، وكثُرت الفتوحات، ومات معظم الصَّحابة، وتفرّق أصحابهم وأتباعهم، وقلَّ الضَّبط واتَّسع الخَرْق، وكاد الباطل أن يلتبس

خاصٌّ بفعله وقوله ، والسنَّة أعمُّ منهما.

قوله: (وَمَنْ تَلَاهُ)؛ أي: تَبِعَهُ؛ أي: من دَوَّنَ.

وقوله: (فِيْ ذَلِكَ)؛ أي: التَّدوين.

وقوله: (أَحْسَنَ السُّنَنِ) بالضَّمِّ جمع سُنَّة بمعنى الطَّريقة، فالمراد بها هنا المعنى اللُّغويُّ وفي الأوَّل المعنى الاصطلاحيُّ، وهو أحسنُ من قراءته بفتحتين بمعنى الطريق.

قوله: (والْإِسْلَامُ غَضٌّ … ) إلى آخره، جملة حالية معترضة بين اسم (زال) وخبرها وهو أشرف العلوم.

قوله: (لا يَشْرُفُ) بفتح أوَّله وضمِّ ثالثه؛ أي: لا يصير شريفًا.

قوله: (بَعْدَ حِفْظِ التَّنْزِيْلِ)؛ أي: القرآن.

قوله: (إِلَّا بِحَسَبِ مَا سُمِعُ مِنَ الحَدِيْثِ عَنْهُ)؛ أي: إلَّا بحسب ما يُروى عنه من الأحاديث كَثْرَةً وقلَّة وصحَّةً وضعفًا؛ فكلَّما أكثر من الحديث تحمُّلًا وأداءً وعُني بمعرفة رجاله ومتنه كان أجلَّ عندهم وأشرفَ وبالعكس.

قوله: (وانْقَطَعَت الهِمَمُ … ) إلى آخره، لعلَّه ضمَّنَهُ معنى قصرت فعَدَّاهُ بعَلَى، وإلَّا فكان حقُّهُ التَّعدية باللَّام.

قوله: (ذَوَاتِ العَدَدِ) بفتح العين؛ أي: المعدودة؛ والمراد الكثيرة وإن كان ذلك كناية عن القلَّة بإشارة قوله تعالى: ﴿وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ﴾ [يوسف: ٢٠]، وقوله: (والعُدد) بضمِّ العين جمع عُدَّة بضمِّها وفتح الدَّال مشدَّدة، وهي ما يعِدُّه الإنسان للأمر من مال وغيره.

قوله: (وَقَطَعُوا الفَيَافِي) بفاءين جمع فيفاء بالمد ويُقصر، كما في «القاموس» وهي: المفازةُ لا ماءَ فيها كالفيفاة، ويُجمع أيضًا على أفياف وفيوف.

قوله: (وَجَابُوا)؛ أي: قطعوا بمسيرهم.

والأصل في الرِّحلة ما رواه البيهقيُّ والخطيب عن عبد الله بن محمَّد بن عقيل عن جابر بن عبد الله قال: بلغني حديث عن رسول الله لم أسمعه فابتعت بعيرًا فشددت عليه رحلي وسرت شهرًا حتَّى قَدِمتُ الشَّام، فأتيت عبد الله بن أُنَيس فقلت للبوَّاب: قل له: جابر على الباب، فأتاه فقال: جابر بن عبد الله؟! فأتاني فقال لي فقلت: نعم، فرجع فأخبره، فقام يطأُ ثوبه حتَّى لقيني، فاعتنقني واعتنقته، فقلت: حديث بلغني عنك سمعته من رسول الله في القصاص لم أسمعه فخشيتُ أن تموت أو أموت قبل أن أسمعه، فقال: سمعت رسول الله يقول: «يَحْشُرُ اللهُ الْعِبَادَ، أو قال: النَّاس عُرَاةً غُرْلًا بُهْمًا، قُلْنَا: ما بُهْمًا؟ قال: ليس مَعَهُمْ شيء، ثُمَّ يُنَادِيهِمْ رَبُّهُم بِصَوْتٍ يَسْمَعُهُ مَنْ بَعُدَ كَمَا يَسْمَعُهُ من قَرُبَ: أنا الْمَلِكُ أنا الدَّيَّانُ لَا ينبغي لأَحَدٍ من أَهْلِ الْجَنَّةِ أَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ وَلأَحَدٍ من أَهْلِ النَّارِ عِندَهُ مَظْلَمَةٌ حتى أَقُصَّها مِنْهُ حَتَّى اللَّطْمَةُ، قُلْنَا: كَيْفَ وإِنَّمَا نَأْتِي اللَّهَ عُرَاةً غُرْلًا بُهْمًا؟ قال: بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ».

واستدلَّ البيهقيُّ أيضًا برِحلة موسى إلى الخَضِر.

وروي أيضًا من طريق عيَّاش عن واهب بن عبد الله المعافريِّ قال: قَدِم رجل من أصحاب النَّبيِّ من الأنصار على مَسْلمة بن مَخْلد فألفاه نائمًا، فقال: أيقظوه. فأيقظوه، فرحَّب به وقال: انزل، قال: لا حتَّى تُرسل إلى عقبة بن عامر لحاجة لي، فأرسل إلى عقبةَ فأتاه فقال: هل سمعت رسول الله يقول: «من وَجَدَ مُسْلِمًا على عَوْرَةٍ فَسَتَرَه فَكَأَنَّمَا أَحْيَا مَوْؤُودَةً من قَبْرِهَا»، فقال عُقبة: قد سمعت رسول الله يقول ذلك.

وسأل عبد الله بن أحمد أباه عمَّن طلب العلم: ترى له أن يلزم رجلًا عنده علمٌ فيكتب عنه؟ أو ترى له أن يرحل إلى المواضع الَّتي فيها العلم فيسمع منهم؟ قال: يرحل يكتب عن الكوفيِّين والبصريِّين وأهل المدينة ومكَّة.

قال إبراهيم بن أدهم: إنَّ الله يدفع البلاء عن هذه الأمة برحلة أصحاب الحديث.

قال الخطيب: والمقصود بالرِّحلة أمران:

أحدهما: تحصيل علوِّ الإسناد وقِدَم السَّماع.

والثَّاني: لقاء الحفَّاظ والمذاكرة لهم والاستفادة منهم، فإذا كان الأمران موجودين في بلدةٍ ومعدومين في غيره فلا فائدة في الرِّحلة أو موجودين في كلٍّ منهما فليُحَصِّل حديثَ بلده ثمَّ يرحلُ.

قوله: (وَكَانَ اعتِمَادَهُم)؛ أي: السَّلف والخلف.

وقوله: (أوَّلًا)؛ أي: في أوَّلِّ الأمر قبل انتشار الإسلام وتَفَرُّقُ الصَّحابةِ في الأمصار فكانت كتابة الحديث إذ ذاك قليلة؛ لما ذكره الشَّارح من سرعة حفظهم، ولأنَّ أكثرهم كان لا يحسن الكتابة، ولوقوع الخلاف بين السَّلف في كتابة الحديث؛ فقد كَرِهَهَا طائفةٌ منهم؛ لما رواه مسلم عن أبي سعيد الخُدريِّ أنَّ النَّبيَّ قال: «لَا تَكْتُبُوا عنِّي شَيْئًا إِلَّا الْقُرْآنَ، فَمَنْ كَتَبَ عنِّي شَيْئًا غير الْقُرْآنِ فَلْيَمْحُهُ»، وأباحها آخرون؛ لحديث ابن عمرو قال: قلت: يا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي أَسْمَعُ مِنْكَ الشَّيءَ أَفَأَكْتُبُهُ؟ قال: «نعم». قلت: في الْغَضَبِ وَالرِّضَى؟ قال: «نعم؛ فإنِّي لَا أَقُولُ فِيهِمَا إلَّا حَقًّا».

وحديث رافع بن خَدِيج قال: قُلْتُ: يا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّا نَسْمَعُ مِنْكَ أَشْيَاءَ أَفَنَكْتُبُهَا؟ فقال: «اكْتُبُوا وَلا حَرَجَ».

وأسند الدَّيلميُّ عن عليٍّ مرفوعًا: «إِذَا كَتَبْتُم الْحَدِيْثَ فَاكْتُبُوْهُ بِسَنَدِهِ».

ثمَّ أجمعوا بعد ذلك على جوازها وزال الخلاف وجمعوا بين هذه

<<  <   >  >>