ثمَّ الإعلام: بأن يقول له: هذا الكتاب رويته أو سمعته، مقتصرًا على ذلك من غير إذنٍ، وهذه جوَّزها كثيرٌ من الفقهاء والأصوليِّين، منهم ابن جريجٍ وابن الصَّبَّاغ.
ثمَّ الوصيَّة: بأن يوصيَ الرَّاوي عند موته أو سفره لشخصٍ بكتابٍ يرويه، فجوَّزه محمَّد ابن سيرين، وعلَّله عياضٌ: بأنَّه نوعٌ من الإذن، والصَّحيح: عدم الجواز إلَّا إن كان له من الموصي إجازةٌ، فتكون روايته بها لا بالوصيَّة.
ثمَّ الوجادة: بأن يقف على كتابٍ بخطٍّ يعرفه لشخصٍ عاصره أو لا، فيه أحاديثُ يرويها ذلك الشَّخص ولم يسمعها منه ذلك الواجد، ولا له منه إجازةٌ، فيقول: وجدتُ أو قرأت بخطِّ فلانٍ كذا، ثمَّ يسوق الإسناد والمتن. (تنبيهٌ): وشرط صحَّة الإجازة أن تكون من عالمٍ
وليس فيه بالمكاتبة عن شيوخه غيره.
ويكفي معرفة المكتوب له خطَّ الكاتب، وإن لم تقم البينةُ عليه على المعتمد، وإن كان الكاتب غير الشيخ فلا بدَّ من ثُبوت كونه ثقةً، والصحيحُ أن يقول في الرواية بها: (كتب إليَّ فلان قال: حدثنا فلان) أو يقول: (أخبرنا فلان كتابة، أو حدَّثنا كذلك)، ولا يجوز إطلاق (حدَّثنا وأخبرنا) وجوَّز قومٌ آخرون (أخبرنا) دون (حدَّثنا).
روى البيهقي في «المدخل» عن أبي عِصْمَة قال: كنت في مجلس الجَوْزَقَانيِّ فجرى ذكر (حدَّثنا وأخبرنا)، فقلت: هما سواء، فقال رجلٌ: بينهما فرقٌ؛ ألا ترى محمد بن الحسين قال: إذا قال رجل لعبده: إن أخبرتني بكذا فأنتَ حر، فكتبَ إليه بذلك فصارَ حُرًّا، وإن قال: إن حدثتني، فكتب بذلك لا يُعْتَقُ.
قوله: (ثُمَّ الإِعْلَاْمُ) هذا هو القسم السادس؛ أي: إعلامُ الشيخِ الطالبَ أنَّ هذا الحديث أو الكتاب سمعه من فلان، وسُمي بذلك؛ لأنَّ الشيخَ أعلمَ الطالبَ بما يرويه من دون إذنٍ في روايته عنه، ولا تجوزُ الرواية به على الصحيح.
قوله: (مِنْ غَيْرِ إِذْنٍ)؛ أي: في روايتهِ عنهُ.
قوله: (جَوَّزَهَا كَثِيْرٌ مِنَ الفُقَهَاءِ)؛ أي: الشافعية والمالكية، بل قال بعض الظاهرية: لو قال: هذه روايتي ولا تروها عني أو لا أجيزها لك. كان له روايتها عنه، وعلَّله عياض بأنَّه بذلك قد حدَّثه وهو شيء لا يُرجع فيه، لكن الصحيح أنَّه لا تجوز الرواية بها كما قطع به الغزالي وحكاه النووي عن غير واحد من المحدثين وغيرهم؛ لأنَّه قد لا يجوز روايته مع كونه سماعه؛ لخللٍ يعرفه فيه، لكن مع ذلك يجب العمل به؛ أي: بما أخبره الشيخ أنَّه سمعه إذا صحَّ سنده.
قوله: (ثُمَّ الوَصِيَّةُ) هي القسم السابع.
قوله: (نَوْعًا مِنَ الإِذْنِ)؛ أي: وشبهًا من العرض والمناولة، قال: وهو قريبٌ من الإعلامِ.
قوله: (وَالصَّحِيْحُ عَدَمُ الجَوَازِ) كذا قال ابن الصلاح، وأنكرَ عليه ذلك ابن أبي الدم وقال: الوصية أرفع رتبة من الوِجَادة بلا خلافٍ، وهي معمولٌ بها عند الشافعي وغيره، فهذه أولى.
قوله: (الوِجَادَةُ) بكسر الواو مصدرٌ لوجد غير مسموعٍ من العرب، قال المُعافَى بن زكريا: فرَّع المولِّدون قولهم: وجادةً فيما أُخِذَ من العلم من صحيفةٍ من غير سماعٍ ولا إجازةٍ ولا مناولةٍ من تفريقِ العرب بين مصادر وجد، للتمييز بين المعاني المختلفة.
قال ابن الصلاح: يعني قولهم: وَجَدَ ضالته وجدانًا ومطلوبه وجودًا، وفي الغضب: موجدة، وفي الغنى: وُجدًا بالضم، وفي الحُبِّ: وَجْدًا بالفتح.
قوله: (عَلَى كِتَابٍ)؛ أي: فيهِ أحاديث.
قوله: (عَاصَرَهُ)؛ أي: ولم يلقه، أو لقيه ولم يسمع منه، أو سمع منه غيرَ ما فيه (١).
قوله: (فَيَقُوْلُ وَجَدْتُ … ) إلى آخره، قال النووي: هذا الذي استقرَّ عليه العمل قديمًا وحديثًا.
قال الجلال: وفي «مسند أحمد» كثير من ذلك من روايةِ ابنه عنه بالوِجادة، وهو من باب المنقطع لكن فيه شائبة اتصالٍ بقوله: وجدتُ بخط فلان، وجازف بعضهم فأطلق فيها حدَّثنا وأخبرنا، ولم يُجِزْ ذلكَ أحدٌ يُعتمد عليه، ووقع في «صحيح مسلم» أحاديث مروية بالوِجادة فانْتُقد عليه بأنَّها من المقطوع؟
وأجيب: بأنَّها مروية عن طُرُقٍ أُخرى له.
قوله: (بِخَطِّ فُلَاْنٍ)؛ أي: إن وَثِقَ بأنَّهُ خطه أو كتابه، وإلَّا قال: بلغني عن فلان، أو وجدت عن فلان، أو ذكرَ أوقال فلانٌ أخبرنا فلان … إلى آخره، وقد تُستعمل الوِجادة مع الإِجازة فيقال: «وجدت بخط فلان وأجازهُ لي»، ثم قد اختلف في العمل بالوِجادة فنُقِلَ عن معظمِ المحدثين والمالكيين وغيرهم أنَّه لا يجوز، وعن الشافعي جوازه، وقطعَ بعضُ المحققينَ بوجوب العملِ بها عند حصولِ الثقة به، قال النووي: وهو الصحيح الذي لا يتجه غيره، قال ابن الصلاح: لأنَّهُ لو توقفَ العملُ فيها على الروايةِ لانسدَّ باب العمل بالمنقول لتعذر شروطها، قال البُلقيني: واحتج للعمل بها بحديث: «أَيُّ الْخَلْقِ أَعْجَبُ إِيمَانًا؟ قَالُوْا: الْمَلائِكَةُ. قَالَ: وَكَيْفَ لَاْ يُؤْمِنُوْنَ وَهُمْ عِنْدَ رَبِّهِم. قَالُوْا: الأَنْبِيَاءَ؟ قَالَ: وَكَيْفَ لَاْ يُؤْمِنُوْنَ وَهُمْ يَأْتِيْهُم الوَحْيُ. قَالُوْا: فَنَحْنُ؟ قَالَ: وَكَيْفَ لَاْ تُؤْمِنُوْنَ وَأَنَا بَيْنَ أَظْهُرِكُم. قَالُوْا: فَمَنْ يَا رَسُوْلَ اللهِ؟ قَالَ: قَوْمٌ يَأْتُوْنَ مِنْ بَعْدِكُم يَجِدُوْنَ صُحُفًا يُؤْمِنُوْنَ بِمَا فَيْهَا» وهو استنباطٌ حسن. انتهى. قال الجلال: والحديثُ له طرقٌ كثيرة، وفي بعضها: «أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ مِنْكُم أَجْرًا»، وفي بعضها: «فَهَؤُلَاْءِ أَفْضَلُ أَهْلِ الإِيْمَانِ إِيْمَانًا». انتهى.
أقول: ولينظر هذا مع حديث: «لَوْ أَنْفَقَ أَحَدُكُمْ مِثْلَ جَبَلِ أُحُدٍ ما بَلَغَ مُدَّ أَحَدِهِمْ ولا نَصِيفَهُ»، وحديث: «لَوْ وُزِنَ إِيْمَانُ أَبِي بَكْرٍ بِإِيْمَانِ الأُمَّةِ لَرَجَحَ»، وغير ذلك من فضل الصحابة وأعمالهم وإيمانهم.
قوله: (وَشَرْطُ صِحَّةِ الإِجَازَةِ … ) إلى آخره، عبارة «التقريب» و «شرحه» قالوا: إنَّما تستحسنُ الإجازة إذا عَلِمَ المجيزُ ما يجيز، وكان المجاز له من أهل العلم أيضًا؛ لأنَّها توسعٌ وترخيص يتأهلُ له أهل العلم
(١) تعليق موسوعة البخاري: أي غير ما في الكتاب الذي وجده بخط هذا الشيخ.