وأوَّل إسناده فَرْدٌ، وهو مُلْحَقٌ بالمتواتر عندهم؛ لأنَّه يفيد العلمَ النَّظريَّ.
والصَّحيح: ما اتَّصل سندُه بعدولٍ
وغيره وكل متواتر مشهور ولا عكس.
قوله: (أَوَّلُ إِسْنَادِهِ فَرْدٌ)؛ أي: لأنَّه تفرَّدَ به عمر ﵁ إذ لم يَرْوِهِ عن النَّبيِّ ﷺ إلَّا هو، ثمَّ تَفَرَّدَ بروايته عن عُمر علقمة، ثم محمَّد بن إبراهيم عن علقمة، ثم عنه يحيى بن سعيد، ثم رواه عنه جماعة وعن كل جماعة وهكذا، فطرأت له الشُّهرة من عند يحيى بن سعيد وأوَّل إسناده فردٌ وهو عمر، واعترض بأنَّه لم ينفرد به بل رواه عن النَّبيِّ ﷺ كما ذكره أبو القاسم بن منده سبعة عشر من الصَّحابة، بل ذكر غيره أكثر منهم، كأبي سعيد الخدريِّ وعليِّ بن أبي طالب وسعد بن أبي وقَّاص وابن مسعود وابن عمر وابن عبَّاس وأنس وأبي هريرة وأبي ذرٍّ.
وذكر ابن منده أنَّه رواه عن عمر غير علقمة، وعن علقمة غير محمَّد، وعن محمَّد غير يحيى.
وأُجيب: بأنَّه لم يصحَّ له طريقٌ غير حديث عمر ولم يروَ بلفظ حديث عمر إلَّا من حديث ابن سعيد وسائر أحاديث الصَّحابة المذكورين إنَّما هي في مطلق النِّيَّة كحديث: «يُبْعَثُوْنَ عَلَى نِيَّاتِهِم»، وحديث: «لَيْسَ لَهُ مِنْ غَزَاتِهِ إِلَّا مَا نَوَى» ونحو ذلك.
والتِّرمذيُّ في جامعه يقول بعد سوق الحديث: (وفي الباب عن فلان وفلان) فلا يريد ذلك الحديث المعيَّن، بل أحاديث أُخر يصحُّ أن تكتب في الباب.
قال القرافي: وهو عملٌ صحيح إلَّا أنَّ كثيرًا من النَّاس يفهمون من ذلك أنَّ مَن ذُكر من الصَّحابة يروون ذلك الحديث بعينه وليس كذلك بل قد يكون كذلك وقد يكون آخر يصحُّ إيراده في ذلك. انتهى.
ولم يصح من طريق عمر إلَّا الطَّريق المتقدِّمة.
قال البزَّار في «مسنده»: (لا يصحُّ عن رسول الله ﷺ إلَّا من حديث عمر، ولا عن عمر إلَّا من حديث علقمة، ولا عن علقمة إلَّا من حديث محمَّد، ولا عن محمَّد إلَّا من حديث يحيى).
قوله: (وَهُوَ مُلْحَقٌ بِالمُتَوَاتِرِ)؛ أي: في إفادة العلم ووجوب العمل به.
وقوله: (لأنَّه يفيد العلم النظري)؛ أي: لا الضَّروريَّ كالمتواتر، إذ هو مقطوع بصحَّته وصدقه من غير نظرٍ فيه، وأمَّا هذا فلا يُقطع بصحَّته حتَّى ينظر فيه؛ فإن كان رواته رواة الصَّحيح أو الحسن أُعطي حكمهما، وإلَّا فلا على ما سيأتي تفصيله.
قوله: (والصَّحيح) فعيل بمعنى فاعل من الصِّحة وهي حقيقة في الأجسام واستعمالها في مثل ما هنا مجازًا واستعارة تبعيَّة وهذا بحسب الأصل، أمَّا الآن فقد صار حقيقة عرفيَّة فيما عرَّفه الشَّارح.
قوله: (مَا اتَّصَلَ)؛ أي: متنٌ اتَّصلَ سنده بحيث يكون كلٌّ من رجاله سمعه من شيخه من أوَّل السَّند إلى آخره بأن ينتهي إلى النَّبيِّ ﷺ أو الصَّحابيِّ أو من دونه فيشمل الموقوف، ويخرج المنقطع والمُعضَل والمعلَّق والمُرسَل على رأي من لا يَقْبله.
فالمراد بالصَّحيح الصَّحيح لذاته المُجمع عند المحدِّثين على صحَّة نسبته للنَّبيِّ ﷺ، فلذلك خرج المرسل فإنَّه صحيح عند مالك دون الشَّافعيِّ؛ لعدم اتَّصال سنده، ويخرج أيضًا الصَّحيح لغيره فإنَّه الحسن لذاته كما سيأتي.
قوله: (بِعُدُوْلٍ) جمع عدل، من العدالة وهي لغة: الاستقامة، وأمَّا اصطلاحًا فقد عرَّفها ابن السُّبكيِّ في «جمع الجوامع» بقوله: ملكةٌ تحمِلُ على اجتناب الكبائر وصغائر الخسة والرَّذائل المباحة. انتهى. والكبائر: كلُّ ما فيه وعيدٌ شديد كالزِّنا ونحوه فلا حصر لها على الرَّاجح، وصغائر الخسَّة: كلُّ ما يدلُّ على خسَّة النَّفس كسرقة لقمة والتَّطفيف في الوزن بحبَّة، والرَّذائل جمع رذيلة: وهي ما تُورث الاحتقار كالأكل في السُّوق والمشي حافيًا أو مكشوف الرَّأس لكن هذا جائز دون ما قبله، وعرَّفها الحَمُّويي بقوله: العدالة: المحافظة على التَّقوى والمروءة، والتَّقوى: الاحتراز عما يُذَمُّ شرعًا.
والمُروءة بالضَّمِّ على الأفصح، وقد تُبدل همزته واوًا وتُدغم بمعنى الإنسانية؛ لأنَّها مأخوذة من المرء: وهي تعاطي المرء ما يُستحسن وتجنُّب ما يُسترذل كالحِرَف الدَّنيئة والملابس الخسيسة
والجلوس في الأسواق، أو صيانة النَّفس عن الأدناس أو ما يُشين عند النَّاس، أو آداب نفسانيَّة تحمل مراعاتها الإنسان على الوقوف عند محاسن الأخلاق وجميل العادات، يقال: مرؤ الإنسان فهو مرئ كقُرُب فهو قريب كما في «المصباح» وكلُّها قريبة المعنى لكنَّها بعيدة المرمى ولله درُّ من قال:
مَرَرْتُ عَلَى المُرُوءةِ وَهِيَ تَبْكِي … فَقُلْتُ عَلَامَ تَنْتَحِبُ الفَتَاةُ
فَقَالَتْ كَيْفَ لَا أَبْكِي وَأَهْلِي … جَمِيْعًا دُوْنَ خَلْقِ الله مَاتُوْا
وقد كان قيل:
ولا بدَّ منْ شكوى إلى ذيْ مروءةٍ … يُوَاسِيْكَ أَوْ يُسليكَ أو يتوجعُ