ضابطين بلا شذوذٍ، بأن لا يكون الثِّقة خالف أرجح منه حفظًا أو عددًا مخالفةً لا يمكن الجمع، ولا علَّةٍ
فقلت:
ولا تشكُ منْ خبٍّ ألمَّ إلى فتىً … وكنْ صابرًا فالصَّبرُ للحرِّ أنفعُ
فمَا منْ فتىً تَلقى بهِ مِنْ مروءةٍ … يواسيكَ أو يُسليكَ أو يتوجَّعُ
ثُمَّ المرادُ بالعدل هنا عدل الرِّواية: وهو المسلم البالغ العاقل السَّالم من الفسق بارتكاب كبيرة أو إصرار على صغيرة، لا عدلُ الشهادة فلا يختصُّ بالذَّكَر الحرِّ بل يعمُّ الأنثى ومن فيه رقٌّ، فخرج الفاسق بما ذكر، والمجهول عينًا كحدَّثنا رجل؛ لأنَّه لا يقال عدل إلَّا لمعيَّن إذ هو حكم، والحكم على الشَّيء فرعٌ عن تصوُّره، ما لم يصفه نحو الشَّافعيّ من أئمَّة الحديث الرَّاوي عنه بقوله: الثِّقة، كقول الشَّافعيِّ كثيرًا: أخبرني الثِّقة، وكذا مالك قليلًا أو يقول فيه: مَن لا أتهم، كقوله: أخبرني من لا أتَّهمه، فيُقبل فيهما خلافًا للصَّيرفيِّ، وخَرَجَ أيضًا المجهول حالًا؛ كحدَّثنا زيد، ولا يُعرف منه إلَّا أنَّه ابن عمرو ولم ينصَّ أحدٌ من أهل الحديث على توثيقه أو تجريحه.
تنبيه: ظاهر تعبير الشَّارح بـ «عدول» جمعًا أنَّه لا بدَّ فيه من أن يرويه جماعة ضابطون عن جماعة ضابطين إلى منتهاه، وليس كذلك على الصَّحيح بل الشَّرط أن يرويه عدل ضابط عن مثله إلى منتهاه، كما عبَّرَ به ابن الصَّلاح، والشَّارح نظر إلى مجموع سلسلة السَّند فجَمَعَ.
قوله: (ضَابطِيْن) من الضَّبط وهو قِسمان: ضبطُ صدرٍ: وهو أن يحفظ ما سمعه بحيث يتمكَّن من استحضاره متى شاء، وضبط كتاب: وهو صيانته عنده منذ سمع فيه وصحَّحه إلى أن يؤدي منه ولا يدفعه إلى مَن يمكن أن يغيِّرَ فيه، ومحلُّ هذا في كتاب لم يشتهر ولم يضبط، أمَّا ما كان كذلك كالبخاريِّ ومسلم فلا يشترط صيانة ما سمع فيه عنده حتَّى يُؤدِّي منه بل الشَّرط أنْ يروي من أصل شيخه أو فرع مقابَلٍ عليه أو فرع مقابلٍ على الفرع كما أفاده بعض حواشي شيخ الإسلام، أقول: والظَّاهر أنَّ التَّقييد بشيخه في مثل ما ذكر ليس بلازم لضبط تلك الكتب في ذاتها فالمدار على كون النُّسخة مصحَّحة على أيِّ شيخ أو مقابلةً بأيِّ فرع صحيح.
وأطلق الشَّارحُ الضَّبط ولم يقيِّد بالتَّام مع أنَّه مراتب ثلاثة: عليا ووسطى ودنيا؛ لأنَّه المراد عند الإطلاق فإنَّ اللَّفظ إذا أُطلق انصرف للفرد الكامل وهو التَّامُّ خصوصًا والمقام يقتضيه.
والضَّبط التَّامُّ هو ما لا يختلُّ، فلا يُقال في صاحبه إنَّه يضبط تارة ولا يضبط أخرى، فيخرج الحسن لذاته المُشترط فيه سَمِيُّ الضَّبط فقط، وما نقله مغفَّلٌ كثيرُ الخطأ.
قال في «التَّقريب»: ويُعرف ضبط الرَّاوي بموافقته الثِّقات المتقنين الضَّابطين إذا اعتبر حديثه بحديثهم، فإن وافقهم في روايتهم غالبًا ولو من حيث المعنى فضابط، ولا تضرُّ المخالفة النَّادرة فإنْ كثرت اختلَّ ضبطه ولم يُحتجَّ به في حديث.
قوله: (وَلَا شُذُوْذ) زاد بعضهم: ولا إنكار، ولا حاجة إليه لأنَّ المُنكر أسوأ حالًا من الشَّاذِّ فاشتراط نفي الشُّذوذ يقتضي اشتراط نفيه بالأولى.
قوله: (بِأَنْ يَكُوْنَ الثِّقَةُ … ) إلى آخره، تصوير لعدم الشُّذوذ، فيكون الشُّذوذ هو مخالفة الثِّقة لأرجح منه حفظًا أو عددًا، وهو أحد أقوال في تفسيره.
ثانيها: تفرُّدُ الثِّقة مطلقًا سواء خالف غيره أو لا.
ثالثها: تفرُّدُ الرَّاوي مطلقًا ثقة أو لا، والرَّاجح الأوَّل، وعليه قال شيخ الإسلام: إنَّ انتفاء صحة الحديث بمجرد مخالفةِ أحدِ رواته لمن هو أوثقُ منه مُشكل؛ لأنَّ الإسناد إذا كان متصلًا ورواته كلّهم عدول ضابطون فقد انتفت عنه العلل الظَّاهرة وإذا انتفى كونه معلولًا فما المانع من الحُكم بصحته، فمجرد مخالفة أحد رواته لمن هو أرجح منه لا تستلزمُ الضَّعف بل يكون من باب صحيح وأصح.
قال: ولم أرَ مع ذلك عن أحد من أئمَّة الحديث اشتراط نفي الشُّذوذ المعبَّر عنه بالمخالفة، وإنَّما الموجود من تصرفاتهم تقديم بعض ذلك على بعض في الصحة، وأمثلة ذلك موجودة في الصَّحيحين وغيرهما.
فمن ذلك أنَّ مسلمًا أخرج حديث مالك عن الزُّهريِّ عن عروة عن عائشة في «الاضْطِّجَاع قَبْلَ رَكْعَتَي الفَجْرِ» وقد خالفَ مالكًا عامَّةُ أصحاب الزُّهريِّ، كمَعْمَر ويونس والأوزاعيِّ وغيرهم عن الزُّهريِّ فذكروا الاضطِّجاع بعد ركعتي الفجر قبل صلاة الصُّبح، ورَجَّحَ جمعٌ من الحفَّاظ روايتهم على رواية مالك، ومع ذلك فلم يتأخَّر أصحاب الصَّحيح عن إخراج حديث مالك في كتبهم، قال: فإن قيل: يلزم أن يسمَّى الحديث صحيحًا ولا يُعمل به، قلت: لا مانع من ذلك إذ ليس كل صحيحٍ يُعمل به بدليل المنسوخ.
قوله: (ولا عِلَّةَ) عطفٌ على شذوذ، والعلَّة: عبارة عن أمر قادح في الحديث؛ -أي: مؤثر في ردِّه- تظهر للنُّقَّاد عند جَمْع طُرق الحديث والبحث والتفتيش فيها؛ وذلك كإرسال الحديث الموصول إمَّا إرسالًا خفيًّا بأنْ يرويه عمَّن عاصره بلفظ (عن) ولم يسمع منه شيئًا، أو ظاهرًا بأن ينقل عن شيخ عُرف عند النَّاس عدم اجتماعه به والحال أنَّه لم يسمع عنه شيئًا أيضًا، فالإرسال