خفيَّةٍ قادحةٍ
هنا غير ما يأتي في تعريف المرسل من الأنواع فإنَّ صُورته أنَّه لم يوصل سنده، ولذلك قيَّدنا هنا بقولنا الموصول، وأيضًا فإنَّه لا فرقَ في كون الإرسال بهذا المعنى علَّةً قادحةً بين أن يكون ظاهرًا أو خفيًّا، ويسمَّى الأوَّل علَّة ظاهرة والثَّاني علَّة خفية، وكلٌّ منهما قادحٌ في صحَّة الحديث؛ لأنَّ الخفيَّة إذا أثَّرت مع خفائها فالظَّاهرة أولى، بخلاف الإرسال بالمعنى الآتي فلا يقدح منه إلَّا الخفيّ فقط، وذلك كإرسال سند متَّصل أو وقف سند مرفوع حيثُ لم يتعدَّد السَّند ولم يقوَ الاتِّصال أو الرَّفع على مقابله من الإرسال في الأوَّل والوقف في الثَّاني بكون راويه أضبط أو أكثر عددًا.
أما الظَّاهرة فهي كإرسال ووقف إذا قويا على مقابلهما بما ذكر وكان يقع اختلاف في تعيين ثقة من ثقتين كحديث: «الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ ما لم يَتَفَرَّقَا»، فإنَّ بعضهم رواه عن عمرو بن دينار، وبعضهم عن عبد الله بن دينار، وكلٌّ منهما ثقة، وإن كان الصَّواب أنَّه مرويٌّ عن عبد الله بن دينار فليست هذه قادحةٌ، ولا يُسمَّى الحديث المشتمل عليها معلَّلًا اصطلاحًا، كما لا يُعلُّ الحديث بكل قادحٍ ظاهر من فسق راويه أو غفلته أو سوء حفظه وإن أعلَّ بعضهم الحديث بذلك.
والحاصلُ: أنَّ الإرسال بالمعنى الأوَّل بقسميه في مرتبة الخفيِّ منه بالمعنى الثَّاني، وأنَّ المعلَّل الآتي الَّذي هو نوع من أنواع الضَّعيف هو ما احترز عنه هنا في تعريف الصِّحة بقوله ولا علة … إلى آخره.
قوله: (قَادِحَةٍ)؛ أي: في صحَّةِ الحديث مع أن الظَّاهر سلامته منها، وهذا القيد؛ لبيان الواقع إذ لا يكون علَّة إلَّا القادحة عند الجمهور، وأطلق بعضهم العلَّة على كلِّ مخالف ولو لم يقدح في صحَّة الحديث كإرسال ما وَصَلهُ الثِّقةُ الضَّابط ممَّن لم يرجح عنه حتَّى قيل في الصَّحيح: صحيح معلَّل، وعليه فيكون هذا القيد للاحتراز عن غير القادحة فلا تضرُّ في كونه صحيحًا كما في المثال المذكور، وكأنْ يروي العدل الضَّابط عن تابعيٍّ عن صحابيٍّ حديثًا فيرويه ثقة آخر عن هذا التَّابعيِّ بعينه عن صحابيٍّ آخر غير الأوَّل، فهذه علَّة غير قادحة أيضًا في صحَّة الحديث؛ لجواز أن يكون ذلك التَّابعيُّ سمعه من كلا الصَّحابيَّين، وفي الصَّحيحين من ذلك كثير.
وتُدرك العلة بقرائن تُنبِّه العارف على وهمٍ وقع بإرسال في الموصول أو وقفٍ في المرفوع أو دخولِ حديثٍ في آخر أو نحو ذلك بحيث يغلب على ظنه فيحكم بعدم صحَّة الحديث أو يتردَّد فيتوقَّف.
وتقع في الإسناد كالإرسال والوقف وتغيير راوٍ بآخر كما سَلَفَ، وفي المتن كحديث الوليد بن مسلم عن أنس في «نفي البسملة من الفاتحة» الآتي فإنَّه معلولٌ بمخالفة العدد الكثير إذ رووه ولم يذكروا الزيادة الَّتي فيها نفي البسملة.
تنبيهان:
الأوَّل: أورد على التَّعريف المذكور أنَّ الحسن إذا رُوي من غير وجهٍ ارتقى من درجة الحسن إلى منزلة الصَّحيح وهو غير داخل في هذا الحدِّ، وكذا ما اعتضد بتلقِّي العلماء له بالقبول فإنَّه يحكم له بالصِّحة وإن لم يكن إسناد صحيح؟
وأجيب: إنَّ هذا تعريف للصَّحيح لذاته لا لغيره، وما أورد من قبيل الثَّاني.
الثَّاني: ما ذكره الشَّارح من شروط الصَّحيح في هذا الحدِّ هو المُجْمع عليه وبقي شروط أُخر مختلف فيها: منها ما ذكره الحاكم أن يكون راويه مشهورًا بالطَّلب، قال عبد الرَّحمن بن عوف: لا يؤخذ العلم إلَّا عمَّن شُهد له بالطَّلب، وعن أبي الزِّناد: أَدركنا بالمدينة مئةً كُلُّهم مأمون لا يؤخذ عنهم الحديث، يقال: ليس من أهله.
قال شيخ الإسلام: ويمكن أن يُقال: اشتراط الضَّبط يغني عن ذلك إذ المقصود بالشُّهرة بالطَّلب أن يكون له مزيد اعتناء بالرِّواية؛ لتركن النَّفس إلى كونه ضبط ما روى.
ومنها اشتراط علم الراوي بمعاني الحديث حيث يروي بالمعنى، وهو شرط لا بدَّ منه لكنَّه داخل في الضَّبط.
ومنها اشتراط البخاريِّ ثبوت السَّماع لكلِّ راوٍ من شيخه ولم يكتف بإمكان اللِّقاء والمعاصرة.
ومنها أنَّ بعضهم اشترط العدد في الرِّواية كالشَّهادة، وبه جزم ابن الأثير، وقال الجبَّائيُّ: لا يقبل الخبر إذا رواه العدل الواحد إلَّا إذا انضمَّ إليه خبر عدل آخر أو عضده موافقة الكتاب أو يكون منتشرًا بين الصَّحابة أو عمل به بعضهم. واشترط بعضهم أن يرويه ثلاثة عن ثلاثة إلى منتهاه وبعضهم أربعة عن أربعة وبعضهم خمسة عن خمسة وبعضهم سبعة عن سبعة، وللمعتزلة في ردِّ خبر الواحد حجج منها «قصَّة ذي اليدين» وكونه ﷺ توقَّف في خبره حتَّى تابعه عليه غيره، وأجيب: بأنَّه إنَّما حصل التَّوقُّف في خبره؛ لأنَّه أخبره عن فعله ﷺ في الصَّلاة، وأَمْر الصَّلاة لا يرجع المصلِّي فيه إلى خبر غيره بل ولو بلغ حدَّ التَّواتر، وإنَّما تذكَّر ﷺ عند إخبار غيره، وقد بَعث ﷺ واحدًا واحدًا إلى الملوك ووفد عليه الآحاد من القبائل