ورواية الأبناء عن الآباء، ويدخل فيه رواية الابن عن أبيه عن جدّه، وأكثر ما انتهت الآباء فيه إلى أربعة عشر أبًا.
والسَّابق واللَّاحق: وهو من اشترك في الرِّواية عنه راويان متقدِّمٌ ومتأخِّرٌ، تَبايَن وقت وفاتيهما تباينًا شديدًا، فحصل بينهما أمدٌ بعيدٌ، وإن كان المتأخِّر غير معدودٍ من معاصري الأوَّل ومن طبقته. ومن أمثلة ذلك: أنَّ البخاريَّ حدَّث عن تلميذه أبي العبَّاس السَّرَّاج بأشياء في التَّاريخ وغيره، ومات سنة ستٍّ وخمسين ومئتين، وآخِرُ مَن حدَّث عن السَّرَّاج بالسَّماع
، عن رسول الله ﷺ أنَّه قال: «فِي الْحَبَّةِ السَّوْدَاءِ شِفَاءٌ من كل دَاءٍ»، لكن قيل: إنَّ ذلكَ غلطٌ ممَّنْ رواه إنَّما هو عن أبي بكر بن عتيق محمد بن عبد الرحمن بن أبي بكر عن عائشة كما رواه البخاري في صحيحه، قال الحافظ السيوطي: ومن ألطفِ هذا النوعِ روايةُ أبي طالب، عن النَّبيِّ ﷺ. انتهى.
أي: «فَإِنَّ الْعَمَّ بِمَنْزِلَةِ الْأَبِ».
قال ابن الصَّلاح: وأكثر ما رويناه لأبٍ عن ابنه عن حفص الدُّوْرِي المُقري، عن ابنه أبي جعفر ستةَ عشر حديثًا.
قوله: (روَايَةِ الأَبْنَاءِ عَنْ الآبَاءِ) هو كثيرٌ كروايةِ الدَّارمي، عن أبيه، عن رسول الله ﷺ وهو في السنن الأربعة.
قوله: (كَرِوَايَةُ الأَكَابِرِ عَنْ الأَصَاغِرِ) هو نوعٌ جليلٌ من فوائده أن لا يتوهم أنَّ المرويَّ عنه أفضلُ وأكبر من الراوي لكونه الأغلب، ومنها أن لا يظن أنَّ في السند انقلابًا، وهو أقسام كما في «التدريب»:
أحدها: أن يكون الراوي أكبرَ سِنًّا وأقدمَ طبقةً من المرويِّ عنه؛ كالزهري عن مالك.
والثاني: أن يكون الراوي أكبرَ قدرًا لا سِنًّا؛ كحافظٍ عالمٍ روى عن شيخٍ ممن لا علمَ عنده، كمالك عن عبد الله بن دينار، وأحمد ابن حنبل عن عبيد الله بن موسى العبسي.
الثالث: أن يكون الراوي أكبر من الوجهين معًا، كعبد الغني بن سعيد عن تلميذه محمد بن علي الصوري، ومن هذا رواية الصحابة عن التابعين، كالعبادلة وأبي هريرة وأنس عن كعب الأحبار، وكذا رواية التابعين عن تابعيهم، كالزهري عن مالك.
قوله: (عن أبيه عن جده)؛ أي: كعَمر بن شعيب بن محمد بن عبد الله بن عمرو بن العاص، عن أبيه، عن جده، احتجَّ بهِ أكثرُ المحدثين حملًا لجده على عبد الله الصحابي دون محمد التابعي؛ لما ظهر لهم من إطلاقه ذلك، ولا عبرة بمن أنكر ذلك كأبي داود محتجًّا بأنَّ روايته عن أبيه عن جَدِّهِ كتابة، وقولُ ابن حبان: إن أراد جده عبد الله فشُعيبٌ لم يلقه فيكونُ مُنقطعًا، وإن أراد محمدًا فلا صحبة له فيكون مرسلًا، فقد قال الذهبي: هذا القولُ لا شيء؛ لأنَّ شُعيبًا ثبتَ سماعه من عبد الله. انتهى.
وقد احتج بها مالك في الموطأ، وروي عن إسحاق بن رَاهُوْيَه قال: عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده؛ كأيوب، عن نافع، عن ابن عمر.
قال النووي: وهذا التشبيهُ نهايةُ الجلالة من مثل إسحاق هذا.
وقال السيد أبو القاسم بن محمد العلوي: الإسناد بعضه عَوالٍ وبعضه مَعالٍ، وقول الرجل حدَّثني أبي عن جدي من المعالي.
وروى الحاكم عن مالك بن أنس في قوله تعالى: ﴿وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ﴾ [الزخرف: ٤٤] قال قول الرجل: حدَّثني أبي عن جدي. انتهى.
ثم تارةً يريدُ الجدَّ أبا الأب، وتارةً يريد الأعلى فيكون جدًا للأبِ.
قوله: (إلَى أَرْبَعَةَ عَشَرَ أَبًا) قال العِراقي: أكثرُ ما وقع لنا التَّسلسل بأربعةَ عشر أبًا من رواية أبي محمد الحسن بن علي بن أبي طالب والحسن بن عبد الله بن محمد بن عبد الله بن علي بن الحسن بن الحسين بن جعفر بن عبيد الله بن الحسن الأصغر بن علي زين العابدين بن الحسن بن علي عن آبائه مرفوعًا بأربعين حديثًا منها: «الْمَجَالِسُ بِالْأَمَانَةِ». انتهى.
ومن ألطف ما جاء بأقل من ذلك رواية الخطيب في «تاريخه» عن عبد الوهاب بن عبد العزيز بن الحارث بن أسد بن الليث بن سليمان بن الأسود بن سفيان بن يزيد بن أُكَيْنة -بضم الهمزة وفتح الكاف وسكون التحتية ونون- قال: سمعت أبي يقول: سمعت أبي يقول: سمعت أبي يقول: سمعت أبي يقول: سمعت أبي يقول: سمعت أبي يقول: سمعت أبي يقول: سمعت أبي يقول: سمعت أبي يقول: سمعت أبي علي بن أبي طالب ﵁ يقول: أي: -وقد سُئِلَ عَنْ الحَنَّانِ المَنَّانِ- الحَنَّانُ الذِيْ يُقْبِلُ عَلَى مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ، وَالمَنَّانُ الَّذِي يعطي، يَبْدَأُ بِالنّوَالِ قَبْلَ السُّؤالِ.
قال الخطيب: بين عبد الوهاب وبين علي ﵁ في هذا الإسناد تسعة آباء، آخرهم أُكَيْنَةَ بن عبد الله وهو السامعُ عليًا.
فائدة: يلتحقُ برواية الرجل عن أبيه عن جده، رواية المرأة عن أمها عن جدتها، وهو عزيز جدًا، ومن ذلك ما رواه أبو داود في «سننه» عن بُندار، عن أم جَنوب بنت نُميلة، عن أمها سُوَيْدَةَ بنت جابر، عن أمها عُقَيْلَة بنت أَسْمَرَ بن مُضَرِّسٍ، عن أبيها أسمر قال: أَتَيْتُ النَّبِي ﷺ فبايعته، فقال: «مَنْ سَبَقَ إلى ما لم يَسْبِقْ إليه مُسْلِمٌ فَهُوَ لَهُ»، ذكره الجلال السيوطي.
قوله: (السَّابِقُ واللَّاحِقُ) من فوائده حلاوةُ علو الإسناد في القلوب كما قال الشارح، وأن لا يظن سقوط شيء من الإسناد.
قوله: (أَمَدٌ)؛ أي: زمنٌ بعيد.
قوله: (أَبِي العَبَّاسِ) هو محمد بن إسحاق، و (السَّرَّاج) بفتح السين المهملة وتشديد الراء آخره جيم، نسبة إلى عمل السُّروج، كان من أجداده من يعملها، كما في «اللباب».