والمُصحَّف: الذي تغيَّر بنقط الحروف
أقران ولا عكس، وخرج بالقرين ما إذا روى عَمَّنْ دونَهُ سنًا أو رُتبةً فذلك روايةُ أكابر عن أصاغر، كرواية الآباء عن الأبناء، كرواية الزهري عن مالك، والدليل عليها رواية النبي ﷺ عن تميم الدَّاري خبر الجسَّاسة -وهي دابة كثيرة الشعر لا يُعلم قُبُلها من دُبُرها- وذلك: «أَنَّ تَمِيْمًا كَانَ سَافَرَ إِلَى الغَرْبِ مَعَ جَمَاعَةٍ مِنْ قَوْمِهِ، فَطَلَعُوْا عَلَى جَزِيْرَةٍ هُنَاكَ، فَرَأَوْا هَذِهِ الدَّابَةَ فَفَزِعُوْا مِنْهَا، فَقَالَتْ: لَاْ تَفْزَعُوْا أَنَا الجَّسَّاسَةُ أَتَجَسَّسُ الأَخْبَارَ لِلمَسِيحِ الدَّجَّالِ، وقيل: هِيَ الَّتِي تَخْرُجُ وَتَسِمُ النَّاسَ فِيْ وُجُوْهِهِم، وَكَانَ تَمِيْمٌ إِذْ ذَاكَ نَصْرَانِيًّا فَلَمَّا رَجَعَ أَسَلَمَ ﵁، وأخبر النَّبيَّ ﷺ بِذَلِكَ، فَجَمَعَ الصَّحَابَةَ وَخَطَبَ لَهُمْ خَبَرَ تَمِيْمٍ عَنْ الْجَسَّاسَةِ».
قلت: هذا مُشعرٌ بأنَّ الدجال موجودٌ حيٌّ من وقتها، ولعله يعرف بقرينة من أحوال العالم وقت خروجِه، وقيضَ له الله هذه الدابة تُخبرهُ عما تجده، حتى إذا رأت هذه الأحوال وأخبرته بها عَلِمَ أنَّه آن أوانه فيظهرُ، وإلَّا فأيُّ فائدة لتسخيرِ هذه الدابة وتَعَرُّفِه منها الأخبارَ، ويؤيدهُ ظنُّ الصحابة في ابنِ صَيَّادٍ أنَّه الدجال حتى همَّ بعضهم بقتله، فقال له النَّبيُّ ﷺ: «إِنْ يَكُنْهُ فَلَنْ تُسَلَّطَ عَلَيْهِ … » الحديث، وإن كانَ يحتمل أنَّ هذه الدابة أوجدها الله تعالى قبله بمدةٍ لحكمةٍ يعلمها.
ومن ذلك رواية الصحابة عن التابعين كرواية العباس عن ابنه الفضل، ووائل عن ابنه بكر، وكرواية العبادلة وأبي هريرة وأنس عن كعب الأحبار، والعبادلة أربعة: عبد الله بن عباس، وعبد الله ابن عمر، وعبد الله بن عمرو بن العاص، وعبد الله بن الزبير، نظمها بعضهم في قوله:
أبناءُ عباسٍ وعمرٍ وعُمَرْ … ثمَّ الزبيرِ هُمُ العبادلةُ الغررْ
فمتى أُطْلِقَ عبد الله انصرف إلى أحدهم.
قال في «شرح التقريب»: وليس ابن مسعود منهم؛ لأنَّه تقدَّم موته وهؤلاء عاشوا حتى احتيج إلى علمهم، فإذا اجتمعوا على شيءٍ قيل هذا قول العبادلة، وقيل: هم ثلاثةٌ بإسقاط ابن الزبير وعليه اقتصر الجوهري في «الصحاح»، وقول الرافعي في الديات، والزمخشري في «المفصل» أنَّ العبادلة ابن مسعود وابن عمر وابن عباس قد غلطا فيه من حيث الاصطلاح.
أما رواية الأبناء عن الآباء فكثيرٌ، وأخصُّ منه مَنْ روى عن أبيه، عن جده، فإنْ تقدَّم موت أحد قرينين اشتركا في الأخذ عن شيخٍ فلذلك هو السابق واللاحق، وسيأتي، وفائدة معرفة هذه الأنواع التمييزُ بين الراويين وتنزيل الناس منازلهم، فربما ظن برواية رجل عن آخر أن الراوي أنزل من المروي عنه كما هو الغالب، ويكون في الحقيقة أعلى أو قرينًا، وكذا عدم توهم واسطة محذوف.
قوله: (وَالمُصَحَّفُ) قال في «التقريب» وشرحه: هو فنٌّ جليل مهمٌ وإنَّما يُحَقِّقُهُ الحُذاق من الحفاظ.
قوله: (الَّذِيْ تَغَيَّرَ … ) إلى آخره؛ أي: تغيرَ لفظهُ أو معناهُ في الإسناد أو المتن بواسطة السمع أو البصر فهو أنواع ثمانية.
مثالُ التصحيفِ في الإسنادِ لفظًا وبصرًا: العوَّام بن مراجم -بالراء والجيم- صحَّفَهُ ابن معين: مُزَاحم بالزاي والحاء.
وسمعًا أن يكون الاسم واللقب أو الاسم واسم الأب على وزنِ اسمٍ آخر ولقبه أو اسمه واسم أبيه، والحروف مختلفة شكلًا ونقطًا فيختلف ذلك على السمع: كعاصم الأحول، قال فيه بعضهم: وَاصَل الأَحْدَب.
ومثال التصحيف في المتن لفظًا وسمعًا: حديث زيد بن ثابت «أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ احْتَجَرَ فِيْ الْمَسْجِدِ» وهو بالرَّاء؛ أي: اتخذَّ حُجرةً من حصير أو نحوه يصلي عليها، صحَّفَهُ ابن لَهِيعة -بفتح اللام وكسر الهاء- فقال: احتجم، بالميم.
ومثاله لفظًا وبصرًا: حديث «مَنْ صَامَ رَمَضَانَ وَأَتْبَعَهُ سِتًّا من شَوَّالٍ» صَحَّفَهُ الصُّولي فقال: «شيئًا» بالمعجمة والتحتية، وحديث: «زُرْ غِبًّا تَزْدَدْ حُبًّا» صحَّفَهُ بعضهم فقال: «زرعنا تردد حنا»، جعل: زرعنا: مبتدأ اسم من الزراعة، وجملةُ تردد … إلى آخره، خبره، وفسَّرَهُ بأن قومًا كانوا لا يؤدون زكاة زروعهم فصارت كلها حناء.
ومثال التصحيف في المتن معنىً فقط: قول محمد بن المثنى أحد شيوخ الأئمة الستة: نحن قوم لنا شرف، نحن من عَنَزَة صلى إلينا رسول الله ﷺ، يُريد «أَنَّ النَّبِيَ ﷺ صلى إِلَى عَنَزَةَ» فتوهَّمَ أنَّه صلى إلى قبيلتهم، وإنَّما العَنَزَةُ هنا الحَرْبَةُ تُنصب بين يديه (١).
ومثاله فيه معنىً وسمعًا: ما ذكره الشارح وكذا ما ذكره الحاكم عن أعرابي أنَّه زعمَ أنَّه ﷺ صلى إلى شاةٍ. صَحَّفَ (عَنَزَةَ) مُحَرَّكَةَ بِـ (عَنْزَةٍ) ساكنةً، ثم رواهُ بالمعنى على وَجههِ فأخطأ من وجهين.
ومن قبيح تصحيف المعنى أنَّ بعضهم سمعَ حَدِيْثُ النَّهْيِّ عَنْ التَّحْلِيْقِ يَوْمَ الجُمُعَةِ قَبْلَ الصَّلَاْةِ فقال:
(١) تعليق موسوعة البخاري: قالها مزاحًا، كما نبَّه إلى ذلك الذهبي في ترجمته في سير أعلام النبلاء (١٢/ ١٢٣) وإلا فيبعد عن علم قدَّمه الدارقطني (ناقل الخبر) على بندار أن يغيب عنه ذلك.