على أنَّه قد يُقال: ما يعرفه الفسَّاق من العلم ليس بعلمٍ حقيقةً؛ لعدم عملهم، كما أشار إليه المولى سعد الدِّين التَّفتازانيُّ في تقرير قول «التَّلخيص»: وقد يُنزَّل العالم منزلة الجاهل، وصرَّح به الإمام الشَّافعيُّ في قوله: ولا العلم إلَّا مع التُّقى، ولا العقل إلَّا مع الأدب.
ولَعَمْري إنَّ هذا الشَّأن من أقوى أركان الدِّين، وأوثق عُرى اليقين، لا يَرْغَبُ في نشره إلَّا صادقٌ تقيٌّ، ولا يَزْهَدُه إلَّا كلُّ منافقٍ شقيٍّ، قال ابن القطَّان: ليس في الدُّنيا مبتدعٌ إلَّا وهو يُبغض أهل الحديث، وقال الحاكم: لولا كثرة طائفة المحدِّثين على حفظ الأسانيد لَدرس منار الإسلام، ولتمكَّن أهل الإلحاد والمبتدعة من وضع الأحاديث وقلب الأسانيد.
وعن عبد الله بن عمرو بن العاص ﵄ أنَّ رسولَ الله ﷺ قال: «العلم ثلاثةٌ: آيةٌ مُحكمَةٌ أو سُنَّةٌ قائمةٌ، أو فريضةٌ عادلةٌ، وما سوى ذلك فهو فضلٌ» رواه أبو داود وابن ماجه، قال في «شرح المشكاة»: والتَّعريف في «العلم» للعهد، وهو ما عُلِمَ من الشَّارع، وهو العلم النَّافع في الدِّين، وحينئذٍ العلم مطلقٌ، فينبغي تقييده بما يُفهَم منه المقصود، فيُقال: علم الشَّريعة معرفة ثلاثة أشياء، والتَّقسيم حاصرٌ، وبيانه: أن قوله: «آيةٌ محكمةٌ» يشتمل على معرفة كتاب الله تعالى وما يتوقَّف عليه معرفته؛ لأنَّ المُحكَمة هي التي أُحكِمت عبارتُها، بأن حُفِظت من الاحتمال والاشتباه، فكانت أمَّ الكتاب، فتُحمَل المتشابهات عليها وتُردُّ إليها، ولا يتمُّ ذلك إلَّا للماهر الحاذق في علم التَّفسير والتَّأويل، الحاوي لمقدِّماتٍ يُفتقَر إليها من الأصلين وأقسام العربيَّة، وقوله: «سُنَّةٌ قائمةٌ» معنى قيامها: ثَباتُها ودوامُها بالمُحافَظَة عليها، مِنْ «قامت السُّوق» إذا نَفَقَت؛ لأنَّها إذا حُوفِظ عليها كانت كالشَّيء النَّافق الذي تتوجَّه إليه الرَّغبات، ويتنافس فيه المحصِّلون بالطَّلِبات، ودوامُها: إمَّا أن يكون بحفظ أسانيدها من معرفة أسماء الرِّجال والجرح والتعديل، ومعرفة الأقسام مِنَ الصَّحيح والحسن والضَّعيف المتشعِّب منه أنواعٌ كثيرةٌ، وما يتَّصل بها من المتمِّمات ممَّا يُسمَّى علمَ الاصطلاح، ممَّا يأتي في الفصل الثَّالث إن شاء الله تعالى، وإما أن يكون بحفظ متونها من التَّغيير والتَّبديل؛ بالإتقان وتفهُّم معانيها واستنباط العلوم منها، كما سيأتي إن شاء الله تعالى في هذا الشَّرح بعون الله سبحانه؛ لأنَّ جُلَّها بل كلَّها من جوامع كَلِمِهِ التي اختُصَّ بها، لا سيَّما هذه الكلمة الفاذَّة الجامعة -مع قِصَر متنها وقُرْب طرقها- علومَ الأوَّلين والآخرين، وقوله: «أو فريضةٌ عادلةٌ» أي: مستقيمةٌ مُستَنبَطَةٌ من الكتاب والسُّنَّة والإجماع، وقوله: «وما سوى ذلك فهو فضلٌ» أي: لا مدخل له في أصل علوم الدِّين، بل ربَّما يُستعاذ منه حينًا، كقوله: «أعوذ بك من علمٍ لا ينفع»، ولله دَرُّ أبي بكرٍ حميدٍ القرطبيِّ، فلقد أحسن وأجاد حيث قال ﵀:
نور الحديث مُبينٌ فَادْنُ واقتبسِ … واحْدُ الرِّكابَ له نحو الرِّضى النَّدِسِ
العلم وهو غير عدل وغير ثقة فلم يبقَ له محمل إلَّا على الأمر، ومعناه: أنَّه أمر للثقات بحمل العلم؛ لأنَّ العلم إنَّما يُقبل عنهم، والدَّليل على ذلك أنَّ في بعض طرقه عند ابن أبي حَاتِم: «ليَحملْ هذا العلم» بلام الأمر. انتهى.
وهذا يَرُدُّ ما ذهب إليه ابنُ عبد البَرِّ.
قوله: (لَيْسَ بِعِلْمٍ حَقِيْقَةً) ليس المراد بالحقيقة الحقيقة اللَّفظيَّة بل المعنويَّة، فإنَّ الحقيقة والمجاز كما يأتيان في الألفاظ كذلك يَرِدَانِ في المعاني كما نقلته في «الفواكه الجنوية»، كما يقالُ في الحياة الحقيقية هي الأخروية لا الدنيوية ونحو ذلك.
وذكر ابن الصَّلاح في «فوائد رحلته» أنَّ بعضهم ضبط الحديث بضمِّ الياء وفتح الميم مبنيًّا للمفعول ورفع «العلم»، وفتح العين واللام من «عَدُولَة» وآخره تاء فوقية -فعلة بمعنى فاعل-؛ أي: كامل في عدالته؛ والمعنى أنَّ هذا العلم يُحمل؛ -أي: يُؤخذ- عن كلِّ خلفٍ عدلٍ فهو أمر بأخذ العلم عن العدول، قال: والمعروف في ضبطه فتح ياء «يَحْمِلُ» مبنيًا للفاعل ونصب «العلمَ» مفعوله والفاعل «عدوله» جمع عدل. انتهى.
قوله: (وَلَعَمْرِي) اللام قسمية، و (العمر) في «القاموس»: بالفتح وبالضَّمِّ، وبضمتين: الحياة وجمعه أعمار. انتهى.
وفي «كليَّات أبي البقاء»: الفتح غالب في القسم ولا يجوز فيه الضَّمُّ. انتهى.
لكن في «شرح أدب الكاتب»: أنَّه سُمع نادرًا (لعُمرك) بضم العين.
وفي «نسيم الرِّياض»: العَمر بالفتح مصدر (عَمَّر) المشدَّد، وأصلُهُ (التَّعمير) فحُذفت زوائده؛ وله معنيان: تعمير الله إياك أو قلبك، وهو على هذا صفة من صفاته تعالى فيصحُّ القَسَم به حقيقة، وهذا ما جنح له الحنفيَّة والنُّحاة.
و (العُمر) بضمِّ العين؛ مخصوص بالإنسان وهو مدَّة وجوده في الدُّنيا فلا يصحُّ القَسم به شرعًا، لكنَّ الله أَقسم به في قوله: ﴿لَعُمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ﴾ [الحجر: ٧٢] على قراءة ضمِّ العين، ولله أن يُقسم بما شاء، فأصله الضمُّ؛ لاختصاصه به في غير القسم فإذا أريد بالمفتوح هذا لا بأس أن يُقال إنَّه من قبيل معناه أو معدول به عنه، وإن لم يَرد هذا المعنى في قَسَمِ النَّاس صحَّ أن يقال إنَّه كناية؛ لتوقفه على النِّيَّة كالمشترك. انتهى.
وفي «القاموس»: في الحديث النَّهي عن قول لعمر الله.
قوله: (إنَّ هَذَا لشَأْن)؛ أي: علمَ الحديث.
قوله: (عُرَى) بضم العين المهملة جمع عروة.
قوله: (إِلَّا وَهُوَ يُبْغِضُ أَهْلَ الْحَدِيْثِ)؛ أي: لمعارضة حديثه لما ينتحله في ترويج بدعته.
قوله: (مِنْ وَضْعِ الأَحَادِيثِ)؛ أي: مع اشتباهها بالصَّحيح وإضلال النَّاس بالعمل بها، وإلَّا فقد وضع كثيرون منهم كثيرًا منها، أو المراد أكثر ممَّا وضعوا.
قوله: (فَهُوَ فَضْلٌ)؛ أي: زائدٌ غير محتاج إليه.
قوله: (وَمَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ مَعْرِفَتُهُ)؛ أي: من العلوم كالنَّحو واللُّغة والبيان.
قوله: (من الأَصْلَيْن)؛ أي: التَّوحيدَ وأصولَ الفقهِ.
قوله: (الفَاذَّة) بالفاء والذَّال المعجمة المشدَّدة؛ أي: المنفردة.
قوله: (فَادْنُ) أمرٌ من الدُّنوِّ وهو القُرب.
وقوله: (واقْتَبِسْ) أمرٌ من الاقتباس، وهو من النَّار الأخذ، ومن العلم الاستفادة.
قوله: (وَاحْدُ الرِّكَابِ) أُحْدُ أمرٌ من الحدو، يقال: حدا الإبل يحدوها وبها حدوًا: زجرها وساقها، فدال (احدُ) مضمومة، و (الرِّكاب) -ككتاب- الإبل كما في «القاموس»، قال: واحدتها راحلة. انتهى.
أي: لا واحد له من لفظه، وقيل واحده: ركوبة، وهي كالرَّكوب بالفتح: النَّاقة المعدَّة للحمل والرَّكوب كما في «العناية»، يقال: ما له ركوبة ولا حمولة ولا حلوبة؛ أي: ما يركبه ويحمل عليه ويحلبه.
وقوله: (نَحْوَ الرِّضى)؛ أي: جهة