واطلُبْهُ بالصِّين فهْو العلم إن رُفِعَتْ … أعلامُه بِرُباها يا بن أندلسِ
فلا تُضِعْ في سوى تقييد شارِدِه … عُمْرًا يفوتك بين اللَّحْظ والنَّفَسِ
وَخَلِّ سمْعَك عن بلوى أخي جَدِلٍ … شُغْلُ اللَّبيبِ بها ضَرْبٌ من الهَوَسِ
ما إنْ سَمَتْ بأبي بكرٍ ولا عمرٍ … ولا أتتْ عن أبي هِرٍّ ولا أَنَسِ
إلَّا هوًى وخصوماتٍ ملفَّقةٍ … ليست برطْبٍ إذا عُدَّتْ ولا يَبَسِ
فلا يغرَّك من أربابها هَذَرٌ … أجْدى وجدِّك منها نَغْمة الجَرَسِ
أَعِرْهُمُ أُذُنًا صُمًّا إذا نطقوا … وكُنْ إذا سألوا تُعزَى إلى خَرَسِ
ما العلم إلَّا كتاب الله أو أَثَرٌ … يَجْلُو بنور هُدَاه كلَّ ملتبِسِ
نورٌ لُمقتبِسٍ، خيرٌ لُملتمِسٍ … حِمًى لمُحترِسٍ، نُعْمَى لمُبْتَئِسِ
فاعكُف ببابِهما على طِلابِهما … تَمْحُ العَمَى بهما عن كلِّ ملتمِسِ
وَرِدْ بقلبك عَذْبًا من حياضه … ماتَغْسِل بماء الهدى ما فيه من دنَسِ
واقْفُ النَّبيَّ وأتباع النَّبيِّ وكُنْ … من هديهم أبدًا تدنو إلى قَبَسِ
والزم مَجالسَهم واحفظ محاسنهم … واندُب مدارسَهم بالأربُع الدُّرُسِ
الرجل الرَّضيِّ؛ أي: المرضيِّ الأخلاق والأطوار.
وقوله: (النَّدس) بضم الدال المهملة وكسرها، وفيه السُّكون أيضًا بعد النُّون المفتوحة: وهو الرَّجل السَّريع الفهم، وفعله كفرح، كما في «القاموس»؛ وهو كناية عن التَّعب في تحصيله وأخذه عن الثِّقات ولو بتحمُّل المشاقِّ العديدة بالأسفار البعيدة وقد نوَّره بما بعده.
قوله: (وَاطْلُبْهُ) المأمور (ابن الأندلس) في قوله: يا ابن أندلس (بالصِّين) ولو بَعُدَت الشِّقة وعظمت المشقَّة (فهو العلم)؛ أي: النَّافع الَّذي لا ينبغي الجدُّ والاجتهاد في غيره (إن رفعت أعلامه) كنايةً عن العمل به وإظهاره ونشره للنَّاس، و (الرُّبى) بضم الراء جمع رَبْوة، مثَّلث الرَّاء كالرُّباوة: ما ارتفع من الأرض والضمير في (رُبَاها) للأَعْلَامِ جمع عَلَمَ بالتَّحريك وهو الرَّاية.
قوله: (فَلَا تُضِعْ) بضمِّ الفوقيَّة من الإضاعةِ، ومفعوله قوله: (عمر … ) إلى آخره، وقوله: (شَارِدَةٌ) بإضافةِ شاردٍ إلى الضَّمير العائد على علم الحديث؛ أي: ما شَرَدَ وتَفَرَّقَ منه.
قوله: (وخَلِّ سَمْعَكَ … ) إلى آخره؛ أي: أفرغ سمعك، والمراد عدم السَّماع رأسًا.
وقوله: (عَنْ بَلْوَى أَخِي جَدَلٌ) هو بالجيم والدَّال محرَّكًا: اللّدد في الخصومة والقدرة عليها، كما في «القاموس»؛ أي: عمَّا ابتُلي به صاحب الشِّدَّة في الخصومة والمجادلة.
وقوله: (شُغْلُ اللَّبِيْبِ) مبتدأٌ و (بها) متعلق به، والضمير للبلوى، و (ضربٌ)؛ أي: نوع (من الهوس) خبره، والجملة صفة لبلوى، والهوس بالتَّحريك: طرفٌ من الجنون واسم المفعول منه مُهْوَس، كمعظم، كما في «القاموس».
قوله: (مَا إِنْ سَمَتْ … ) إلى آخره، ما نافية، وإن زائدة، وسمت بمعنى علت، وضميره للبلوى المذكورة، فالجملة صفةٌ لها أيضًا، ويصحُّ أن يكون استئنافًا بيانيًّا؛ علَّة لعدم سماعها والاشتغال بها كأنَّه قال: لأنَّها لم تَسْمُ من السُّمو (بأبي بكر … ) إلى آخره، و (أبو هر) بكسر الهاء هو أبو هريرة ﵁؛ أي: لم تُسند إليهما أصلًا؛ لعدم وقوعها منهما ولو كان فيها خير لسبقانا إليها، فهي مجرد بدعة مذمومة ولو فرض أنَّهما تلبَّسا بهما إذ لا يتلبسان إلَّا بحَسن.
قوله: (لَيْسَت بِرَطْبٍ) بفتح الراء؛ أي: بشيء رطب. وقوله: (إذا عُدَّتَ) بضمِّ العين وتشديد الدَّال المهملتين، مبني للمجهول من العدِّ معترض بين المتعاطفين، و (اليبس) بالفتح والكسر الَّذي كان رطبًا فجفَّ، والمعنى: ليست شيئًا من الأشياء رطبها أو يابسها، فنزَّلها منزلةَ العدم.
قوله: (هَذَرٌ) بتحريك المعجمة؛ وهو سقط الكلام، أو الكثير الرَّديء، يٌقال: هَذِرَ كلامه كَفَرِحَ يهذر، ويهذر بالكسر والضم هذرًا كَثُر في الخطأ والباطل.
وقوله: (أَجْدَى) بالجيم السَّاكنة أفعل تفضيل من الجِدَّةِ؛ أي: أنفع منها، وهو مبتدأ خبره (نغمة الجرس) بفتح النُّون وسكون الغين المعجمة، والجَرَس بالجيم والرَّاء المفتوحتين الَّذي يُعلَّق في عنق البعير ويضرب به أيضًا، وما بينهما قسمٌ بحياة الجدِّ معترض بينهما؛ يعني: أنَّ سماع صوت هذا الجرس أنفع من سماع الجدليَّات المذكورة.
قوله: (أَعِرْهُم) بفتح الهمزة وكسر العين المهملة أمرٌ من العارية، والضَّمير في (هم) لأهل الجدل؛ أي: إذا أفضى بك الحال إلى سماعهم فسدَّ أذنك وأعطها إيَّاهم عارية، وهو كناية عن عدم الإصغاء إليهم بالكلِّيَّة.
وقوله: (وَكُنْ إِذَا سَأَلَوا تُعزى إلى خَرَسٍ)؛ أي: تُنسب إلى عدم النُّطق؛ أي: إذا سألوك وأرادوا خطابك فأَرِهم أنَّك أخرس لا تطيق الكلام، والمعنى لا تَسمع لقولهم ولا تخاطبهم أصلًا.
قوله: (أو أَثَرٍ)؛ أي: حديثٍ، وقوله: (يَجْلُو) بالجيم؛ أي: يُزيل، والمُلْتَبِس بكسر الموحدة: المُشتبه.
قوله: (نورٌ لمُقْتَبَسٍ) خبرٌ لمبتدأ محذوف، أي هما؛ أي: كتاب الله والأثر نورٌ … إلى آخره، والمُلْتَمس: الطَّالب للشَّيء، والحِمَى: ما يُحمى عن الغير، والمُحْتَرِس: المتحفِّظ.
وقوله: (نُعْمَى) بضم النون وسكون العين المهملة؛ أي: نعيم.
وقوله: (لِمُبْتَئِسِ) بسكون الموحَّدة وفتح الفوقيَّة بعدها همزة مكسورة آخره مهملة؛ أي: فقير.
قوله: (فاعْكُف) بضمِّ الكاف؛ أي: أَقِم.
وقوله: (بِبَابِهِمَا)؛ أي: باب أربابهما.
وقوله: (عَلَى طِلَابِهِمَا) متعلقٌ بـ (اعكف) والطِّلاب كالمطالبة: طلب الإنسان حقّه.
وقوله: (تَمْحُ الْعَمَى) مجازٌ عن الضَّلالة والجهل. وقوله: (عَنْ كُلِ مُلْتَمِسٍ)؛ أي: طالب محو عماه.
قوله: (وَرِدْ) بكسر الرَّاء أمر من الورود، والدَّنس محرَّكًا: الوسخ، يُقال: دنس الثَّوب والعِرض والخُلِق كفرح، دَنَسًا ودَنَاسة فهو دَنِسٌ: اتَّسخ ودَنِسَ ثوبه وعرضه تدنيسًا: فُعِلَ به ما يشينه.
قوله: (واقْفُ النَّبيَّ) بضمِّ الفاء أمرٌ من القفو وهو التَّتبُّع، يقال: قَفَوْتَهُ قَفْوًا وقُفُوًّا بفتحٍ فسكون، وبضمَّتين وشدِّ الواو: تبعته كتقفَّيته واقتفيته.
قوله: (إِلَى قَبَسٍ) مجازٌ عن النُّور، وهو بفتح القاف والموحَّدة.
قوله: (والْزَمْ مَجَالِسَهُم) بفتح الميم جمع مجلس، والثَّاني بضمِّها بمعنى: الَّذي يُجالسهم.
قوله: (وانْدُبْ مَدَارِسَهُم) أمرٌ من النُّدْبَةِ بالضَّمِّ، وهي بكاء الميت وعدُّ محاسنه،