وفي روايةِ مَنْ أَخَذَ على الحديث تَرَدُّدٌ، وفي المتساهل في سماعه وإسماعه؛ كمن لا يبالي بالنَّوم فيه، أو يحدِّث لا من أصلٍ مُصحَّحٍ، أو كثير السَّهو في روايته، إن حدَّث من غير أصلٍ، أو أكثر من الشَّواذِّ والمناكير في حديثه، ومن غلط في حديثه، فبُيِّن له وأصرَّ عنادًا ونحوه؛ سقطت روايته.
ويُستَحبُّ الاعتناء بضبط الحديث وتحقيقه نقطًا وشكلًا، وإيضاحًا من غير مَشْقٍّ ولا تعليقٍ، بحيث يُؤمَن معه اللَّبس، وإنَّما يَشكِل المُشكِل، ولا يشتغل بتقييد الواضح. وصوَّب عيَّاضٌ شَكْل الكلِّ للمبتدئ وغير المُعرِب،
مراتبٍ فلا تغترَّ به.
تنبيه: ما ذُكِرَ من المراتبِ صريحٌ في أنَّ العَدَالة تتجزأُ لكنه باعتبار الضبط.
قال الجلال السيوطي: وهل تتجزأ باعتبار الدِّين؟ وجهان في الفقه، ونظيره الخلاف في تجزُّؤِ الاجتهاد وهو الأصح فيه، وقياسُهُ يتجزأُ الحفظُ في الحديث فيكون حافظًا في نوعٍ دونَ نوع من الحديث، وفيه نظر. انتهى.
قلت: لعلَّ وجه النظر أنَّ الحفظ بمعنى الضبط وعدم التساهل يكون سَجِيَّةً لا تتخلف، فلا يتفاوت في نوعٍ من المسموع دون آخر، ولك أن تقول بل يتفاوت في الأنواع بسبب الالتفات والاعتناء ببعضها لحاجته إليه دون بعض؛ كأن يجعل همته في أحاديث الأحكام مثلًا أزيد منها في أحاديث الترغيب والترهيب، فيتفاوت حينئذٍ ضبطه وحفظه.
قوله: (وِفِيْ رِوَايَةِ مَنْ أَخَذَ) بالإضافة؛ أي: رواية الشخص الذي يأخذ على التحديث أجرةً.
وقوله: (تَرَدُّدٌ)؛ أي: اختلاف، فذهبَ الإمام أحمد وإسحاق بن رَاهُوْيَه وأبو حاتم الرازي إلى أنَّه لا تُقبل روايته، وذهب الفضل بن دُكين شيخ البخاري وعلي بن عبد العزيز البَغَوي وآخرون إلى قَبولها، وأفتى أبو إسحاق الشِّيرازي بجواز الأخذ لمن امتنع عليه الكسب بسبب التحديث، ويشهد له جواز أخذ الوصي الأجرة من مال اليتيم إذا كان فقيرًا واشتغل بحفظه عن الكسب، من غير رجوع عليه لظاهرِ القرآن.
قوله: (وَفِي المُتَسَاهِلِ) عطف على مَن أخذ على الحديث جُعْلًا ففيهِ تردُّدٌ أيضًا.
قوله: (مُصَحَّحٍ)؛ أي: مُقَابلٍ على أصلهِ أو أصل شيخه؛ أي: ويكون ذلك الشخص معروفًا بقبول التلقين، بأن يُلَقن الشيء فيُحدِّث به من غير أن يعلم أنَّه من حديثه كما وقع لموسى بن دينار ونحوه.
قوله: (مِنْ غَيْرِ أَصْلٍ) فإنْ حدَّثَ من أصلٍ صحيحٍ فلا عبرةَ بكثرةِ سهوه؛ لأنَّ الاعتماد حينئذ على الأصل لا على حفظه.
قوله: (بِالنَّوْمِ فِيْهِ)؛ أي: في السماع منه أو عليه.
قوله: (أَوْ أَكْثَرَ [من] الشَّوَاذَّ … ) إلى آخره، قال شُعبة: لَا يَجِيئُكَ بِالحَدِيثِ الشَاذِّ إِلَّا الرَّجُلُ الشّاذُّ.
قوله: (وَمَنْ غَلِطَ) مبتدأ خبره: (سقطت).
قوله: (فَبُيِّنَ لَهُ)؛ أي: بيَّنَ له غيرُهُ غلطه.
قوله: (سَقَطَتْ رِوَايَتُهُ) قال ابن الصلاح: هذا صحيحٌ إن ظهرَ أنَّه أصرَّ عنادًا ونحوه، قال العراقي: وقيَّدَ ذلك بعض المتأخرين بأن يكون المُبيِّن عالمًا عند المبيَّن له، وإلا فلا حرجَ إذًا. انتهى.
قوله: (بِضَبْطِ الحَدِيْثِ)؛ أي: في الكتابةِ.
قوله: (مِنْ غَيْرِ مَشْقٍ وَلَاْ تَعْلِيْقٍ) هُما نوعان من أنواع الخط غير مبينين بيان غيرهما، بل فيهما نوع خفاء، وقد ذكرتهما في «سعود الطالع» مع باقي أنواع الخط فاغنم بمراجعته الحظ (١).
قوله: (بِحَيْثُ يُؤْمَنُ مَعَهُ اللَّبْسُ)؛ أي: ليؤديه كما سمعه، وفي نقْطه وشكْله أمنٌ من اللَّبس.
قال الأوزاعي: نورُ الكتاب إعجامه. قال الرامهرمزي: أي نَقْطه؛ بأن يبين التاء من الياء، والحاء من الخاء، قال: والشَّكْل تقييد الإعراب.
وقال ابن الصلاح: إعجامُ المكتوب يمنع من استعجامه، وشكله يمنع من إشكاله، قال: وكثيرًا ما يعتمدُ الواثق على ذهنه، وذلك وخيمُ العاقبة فإنَّ الإنسان معرَّض للنسيان. انتهى.
وقيل: إنَّ النصارى كفروا بلفظةٍ أخطؤوا في إعجامها وشكلها؛ فإن الله قال في الإنجيل لعيسى: (أنت نبيي وَلَّدتُك من البتول) بتقديم النون على الموحدة في نبي، وتشديد لام (ولدتك) فصحفوها، وقالوا: (أنت بنيي وَلَدْتُكَ) مخففة.
وقيل: أولُ فتنة وقعت في الإسلام سببها ذلك أيضًا؛ وهي فتنة عثمان ﵁ فإنَّه كتبَ للذي أرسله أميرًا إلى مصر إذا جاءكم «فاقبلوه» بالموحدة، فصحفوها «فاقتلوه» بالفوقية فجرى ما جرى، وكتبَ بعض الخلفاء إلى عاملٍ له ببلدٍ: أن احْصِ المخنثين بالحاء المهملة أي بالعدد، فصحَّفها بالمعجمة فخصاهم.
قوله: (وَإِنَّمَا يَشْكُلُ)؛ أي: قيلَ لا يَشكُلُ الكلَّ، بلْ يَشْكُلُ المُلتبسَ فقط؛ إذ لا حاجة إلى الشكل في غيره، وقالوا: يُكره النَّقْط والشَّكْلُ في الواضح، ويَشْكِل بفتح الياء وكسر الكاف من شكل الكتاب.
ويستحبُ ضبطُ المُشكل في نفس الكتاب، وكَتْبِهِ أيضًا مضبوطًا واضحًا في الحاشية قُبالته، فإن ذلك أبلغُ؛ لأنَّ المضبوطَ في نفسِ الأسطر رُبَّمَا داخله نقطُ غيره وشكله مما فوقه أو تحته لاسيما عند ضيقها ودقة الخط، قال ابن دقيق العيد: من عادةِ المتقدمين أن يُبالغوا في إيضاحِ المُشكل، فيفرقوا حروف الكلمة في الحاشية ويضبطوها حرفًا حرفًا.
قوله: (لِلْمُبْتَدِئِ … ) إلى آخره، عبارته: لا سيما للمبتدي وغير المُتَبَحِّر في العلم، فإنَّهُ لا يميزُ ما يُشْكِل ممَّا لا يُشْكِلُ، ولا صوابَ وجه إعراب الكلمة من خطئه، قال العراقي: وربما ظنَّ أنَّ الشيء غير مُشكل لوضوحه، وهو في الحقيقةِ محلُّ نظرٍ محتاجٍ إلى الضبط، وقد وقعَ بين العلماء خلافٌ في مسائل مرتبة على إعراب الحديث، كحديث: «ذَكَاةُ الجَنِيْنِ
(١) تعليق موسوعة البخاري: المشق: سرعة الكتابة، والتعليق: خلط الحروف التي ينبغي التفريق بينها.