لا يريد بذلك غرضًا دنيويًّا، بعيدًا عن حبِّ الرِّياسة ورعوناتها، وليقرأ الحديث بصوتٍ حسنٍ فصيحٍ مرتَّلٍ، ولا يسرده سردًا؛ لئلَّا يلتبس أو يمنع السَّامع من إدراك بعضه، وقد تسامح بعض النَّاس في ذلك، وصار يعجِّل استعجالًا بحيث يمنع السَّامع من إدراك حروف كثيرةٍ بل كلماتٍ، والله تعالى بمنِّه وكرمه يهدينا سواء السَّبيل. (لطيفةٌ): أنبأني الحافظ نجم الدِّين ابن الحافظ تقيِّ الدِّين، وقاضي القضاة
النَّفْسِ وضيقِ العيش وخدمة العلم أفلحَ. انتهى.
ولا يحملنَّه الحرصُ على التساهلِ في التَّحملِ فيخلَّ بشيءٍ من شروطه؛ فإنَّ شهوة السماع لا تنتهي، والعلم كالبحار التي يتعذر كيلها والمعادن التي لا ينقطع نيلها.
وينبغي أن يستعمل ما يسمعه من أحاديث العبادات والآداب وفضائل الأعمال فذلك زكاةُ الحديث وسببُ حفظه.
قال وكيع: إذا أردتَ أن تحفظ الحديث فاعمل به.
وقال بِشْر: يا أصحاب الحديث أدُّوا زكاة هذا الحديث؛ اعملوا من كل مئتي حديث بخمسة أحاديث.
وقال عمرو بن قيس المُلائي: إذا بلغك شيءٌ من الخير فاعملْ بِهِ ولو مرةً تكنْ من أهله.
وليعتقد الطالب جلالةَ شيخه ورجحانَهُ على غيرهِ، فقد قال أبو يوسف: سمعتُ السلف يقولون: مَن لا يعتقدُ أستاذه لا يفلحْ، ويتحرى رضاه، ولا يُطول عليه بحيث يُضجره؛ فإن الإضجار يغيرُ الأفهام ويفسد الأخلاق.
قال ابن الصلاح: ويُخشى على فاعل ذلك أن يُحرمَ الانتفاع.
ولا ينبغي أن يقتصرَ على سماع الحديث وكَتْبه دون معرفته وفهمه، فيكون قد أتعب نفسه من غير أن يظفَر بطائلٍ، بل يتعرف صحته وحسنه وضعفه وفقهه ومعانيه ولغته وإعرابه وأسماء رجاله محققًا كل ذلك، معتنيًا بإتقان مشكله حفظًا وكتابة ويذاكر محفوظه ويباحث أهل المعرفة.
قال ابن مسعود: تذاكروا الحديث فإن حياته مذاكرته.
وقال أبو سعيد الخدري: مذاكرة الحديث أفضل من قراءة القرآن.
وقال ابن عباس: مذاكرةُ العلم ساعةً خيرٌ من إحياء ليلة.
وليكن حفظه له بالتدريج قليلًا قليلًا.
قال الزهري: مَن طلبَ العلم جُملةً فاته جملةً، وإنَّما يُدركُ العلم حديث وحديثان، وليحذر أن يمنعه الحياء والكبر من السعي التام والتحصيل وأخذ العلم ممن هو دونه في نسب أو سن أو غيره، فقد ذكر البخاري عن مجاهد: لا ينال العلم مستحييْ ولا متكبرٌ، وكان ابن المبارك يكتب عمَّن هو دونه فقيل له في ذلك فقال: لعلَّ الكلمة التي فيها نجاتي لم تقع لي عن غيره.
وقال أبو حاتم: إذا كتبت فَعَمِّشْ وإذا حدَّثت فَفَتِّشْ. انتهى.
وعَمِّشْ بالعين المهملة؛ أي: اكتب عن الأعمش، وذلك؛ لأنَّه كان يُدلس، والمراد لا تبال بمن تكتب عنه.
قال العراقي: أراد اكتب الفائدة ممن سمعتها ولا تؤخر حتى تنظر هل هو أهلٌ للأخذ عنه أم لا؟ فربما فات ذلك بموته أو غير ذلك، فإذا كان وقتُ الرواية أو العمل ففتشْ حينئذ، ويحتمل أنَّه أراد استيعاب الكتاب وتركَ انتخابه أو استيعاب ما عند الشيخ وقت التحمل، ويكون النظر فيه حال الرواية. انتهى.
قوله: (لَاْ يُرِيْدُ بِذَلِكَ غَرَضًا دُنْيَوِيًّا)؛ أي: لما روى أبو داود من حديث أبي هريرة مرفوعًا: «مَنْ تَعَلَّمَ عِلْمًا مِمَّا يُبْتَغَى بِهِ وَجْهُ اللهِ لَاْ يَتَعَلَّمُهُ إَلَّا لِيُصِيْبَ بِهِ غَرَضًا مِنَ الدُّنْيَا لَمْ يَجِدْ عَرْفَ الجَنَّةِ يَوْمَ القِيَامَةِ». والعَرف بالفتح: الرائحة الطيبة.
وقال حَمَّاد بن سلمة: من طلبَ الحديثَ لغير الله مُكِرَ بِهِ.
قال ابن الصلاح: ومِن أقربِ الوجوه في إصلاح النية ما روينا أنَّ أبا جعفر بن حمدان سُئِلَ: بأيِّ نيةٍ نكتبُ الحديثَ؟ فقال: ألستم تروونَ أنَّ عند ذكر الصالحين تنزلُ الرحمة؟ قال: نعم، قال: فرسول الله ﷺ رأس الصالحين.
قوله: (وَلَاْ يَسْرُدْهُ)؛ أي: يقرأه بعجلةٍ، وقد أوردَ البيهقي في ذلك حديث البخاري عن عروة قال: «جَلَسَ أبو هُرَيْرَةَ إِلَى جَنْبِ حُجْرَةِ عَائِشَةَ وَهِيَ تُصَلِّي، فَجَعَلَ يُحَدِّثُ، فلما قَضَتْ صَلَاتَهَا قالت: أَلَا تَعْجَبُ إلى هذا وَحَدِيثِهِ: إِنَّ النَّبِيَّ ﷺ إِنَّمَا كَانَ يُحَدِّثُ حَدِيْثًا لو عَدَّهُ الْعَادُّ أَحْصَاهُ»، وفي لفظٍ عند مسلم: «لَمْ يَكُنْ يَسْرُدُ الْحَدِيْثَ كَسَرْدِكُمْ» زادَ البَيْهَقِيُّ: «إِنَّمَا كَانَ حَدِيْثُهُ فَصْلًا تَفْهَمُهُ القُلُوْبُ».
قوله: (لِئَلَّا يَلْتَبِسَ … ) إلى آخره، ولو أفرطَ القارئُ في الإسراعِ بحيثُ يخفى بعض الكلام، أو هَيْنَمَ؛ أي: أخفى صوته، أو بَعُدَ السامع بحيث لا يفهم المقروء عُفِيَ في ذلك عن القدرِ اليسيرِ الذي لا يخلُّ عدمُ سماعه بفهم الباقي نحو الكلمة والكلمتين.
ويُستحب للشيخ أن يجيزَ السامعينَ روايةَ ذلك الكتاب أو الجزء الذي سمعوه وإن شمله السماع؛ لاحتمال وقوع شيء ممَّا تقدم من الحديث والعجلة، فينجبر بذلك.
قال ابن عَتَّابٍ الأندلسي: لا غنىَ في السماع عن الإجازة؛ لأنَّه قد يغلطُ القارئُ ويغفل الشيخ والسامعون، فينجبر ذلك بالإجازة. انتهى.
وإذا كتب الشيخ لأحدهم كتب: سمعَهُ مني وأجزتُ له روايَتَهُ.
(تتمة): ينبغي للشيخ أن لا يروي حديثه بقراءة لَحَّانٍ أو مصحِّف فقد قال الأصمعي: أخوف ما أخاف على طالب العلم إذا لم يعرف النحو أن يَدْخُلَ في جملة قوله ﷺ «مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ من النَّارِ»؛ لأنَّهُ لم يكن يَلحن، فمهما رويت عنه ولحنت فيه كذبت عليه.
وعلى طالب الحديث أن يتعلم من النحو واللغة ما يسلم به من اللحن والتحريف، وقال شعبة: