أبو المعالي محبُّ الدِّين، المكِّيَّان بها، والمحدِّث العلَّامة ناصر الدِّين أبو الفرج المدنيُّ بها، قالوا: أخبرنا الإمام زين الدِّين بن الحسين وآخرون عن قاضي القضاة أبي عمر عبد العزيز بن قاضي القضاة بدر الدِّين الكنانيِّ، قال: قرأت على الأستاذ أبي حيَّان محمَّد بن يوسف بن عليٍّ، قال: حدَّثنا الأستاذ أبو جعفر أحمد بن إبراهيم بن الزُّبير، قال أبو عمر: ولي منه إجازةٌ، قال: حدَّثنا القاضي أبو عبد الله محمَّد بن عبد الله بن أحمد الأزديُّ، قال: حدَّثنا أبو عبد الله محمَّد بن حسن بن عطيَّة (ح): قال أبو حيَّان: وأنبأنا الأصوليُّ أبو الحسين ابن القاضي أبي عامر بن ربيعٍ عن أبي الحسن أحمد بن عليٍّ الغافقيُّ، قال: أخبرنا عياضٌ (ح)، قال أبو حيَّان: وكتب لنا الخطيب أبو الحجَّاج يوسف بن أبي رُكانَة عن القاضي أبي القاسم أحمد بن عبد الودود بن سَمَجُون، قال عياضٌ: أخبرنا القاضي أبو بكرٍ محمَّد بن
مثلُ الذي يطلب الحديث بلا عربيةٍ كمَثَلِ رجلٍ عليه بُرْنُس ولا رأس له.
والطريق في السلامة من التحريف والتصحيف الأخذ من أفواه أهل المعرفة والضبط والتحقيق لا من بطون الكتب، وإذا وقع في روايته لَحْنٌ وتحريفٌ فقيل: يرويه كما سمعه، قال ابن الصلاح: وهو غلوٌّ في اتباع اللفظ، والصَّواب تقريره في الأصل على حالهِ مع التَّضْبيب عليه وبيان الصواب في الحاشية، والأولى عند الأداء أن يقرأهُ على الصواب أوَّلًا ثم يقول: وقع في روايتنا أو عند شيخنا كذا، هذا إن علم أنَّ شيخه رواه له على الخطأ، أما إنْ غلب على ظنه أنَّه من كتاب نفسه لا من شيخه فيتجهُ إصلاحه في كتابه وروايته عند تحديثه، كما إذا درس من كتابه بعض الإسناد أو المتن بنحوِ تَقَطُّعٍ فإنَّه يجوز له استدراكه من كتاب غيره إذا عرف صحته ووثق به بأن يكون أخذه عن شيخه وهو ثقةٌ، وسكنت نفسه إلى أن ذلك هو الساقط.
وإذا وجدَ كلمةً في كتابه من غريب اللغة غير مضبوطةٍ أشكلتْ عليه جازَ أن يسأل عنها العُلماء، وله أن يرويها على ما يخبرونه به، كما فعل ذلك أحمد وإسحاق.
وإذا كان الحديثُ عنده عن اثنين أو أكثر واتفقا في المعنى دون اللفظ فلهُ جمعهما في الإسناد ثم يسوق الحديث على لفظِ روايةِ أحدهما فيقول: (حدثنا فلان وفلان، واللفظ لفلان قال)، أو (قالا: حدثنا فلان)، فإن لم يخصَّ أحدهما بل قال: (أخبرنا فلان وفلان) وتقاربا في اللفظ، أو المعنى واحدٌ جازَ على جواز الرواية بالمعنى، بل عليه يجوز وإن لم يقل تقاربا، فلا وجه لما عيب به البخاري وغيره.
وله أن يسوق الحديث بإسناده ثم يذكر الإسناد الآخر ويحذف متنه ويقول: مثله أو نحوه وهما بمعنىً واحد.
وقال الحاكم: لا يحلُّ أن يقول: (مثله) إلَّا إذا علمَ أنهما اتفقا في اللفظ، ويحل أن يقول: (نحوه) إذا كان بمعناه. انتهى.
قيل: هذا مبنيٌّ على عدمِ جوازِ الروايةِ بالمعنى، وإلَّا جازَ مُطلقًا، وإذا كان في سماعه بعضُ الوهنِ فعليه بيانه بحالِ الرواية، فإنَّ في إِغفاله نوعًا من التَّدْلِيس وذلك كَأَنْ يَسْمَعَ من غيرِ أصلٍ، أو يحصل عند القراءة نوم أو حديث أو نحوه.
وأما الروايةُ بالمعنى فإن لم يكن الرَّاوي عالمًا بالألفاظ ومدلولاتها ومقاصدها، خبيرًا بما يُحيل معانيها، بصيرًا بمقاديرِ التفاوت بينها، لم تجزْ له الرواية لما سمعه بالمعنى بلا خلاف، بل يتعين لفظُ ما سمعه، أما إن كان عالمًا بذلك، فقيل كذلك مطلقًا، وقيل: تجوز للصحابي دون غيره؛ لأنهم جُبِلوا على الفصاحة والبلاغة، وقيل: بالعكس، وقيل: لمن نَسِيَ اللفظ، وقيل: بالعكس ليتمكن من التصرف فيه، والذي عليه جمهور السلف والخلف ومنهم الأئمة الأربعة جوازُ الرواية بالمعنى مُطلقًا إذا قطعَ بأدائه، وذلك هو الذي تشهد به أحوال الصحابة والسَّلف ويدلُّ عليه روايتهم للقصة الواحدة بألفاظٍ مختلفةٍ.
وقد وردَ في المسألة حديثٌ مرفوعٌ رواه الطَّبراني في «كبيره» من حديث عبد الله بن سليمان [عن أبيه] قال: قلت: يَا رَسُوْلَ اللهِ أَسْمَعُ مِنْكَ الْحَدِيْثَ لَاْ أَسْتَطِيْعُ أَنْ أُؤَدِّيَهُ كَمَا أَسْمَعُ مِنْكَ، يَزْيدُ حَرْفًا أَوْ يَنْقُصُ حَرْفًا؟ فَقَالَ: «إِذَا لَمْ تُحِلُّوا حَرَامًا ولم تُحَرِّمُوا حَلَالًا وَأَصَبْتُمُ الْمَعْنَى فَلا بَأْسَ»، فذُكِرَ ذلك للحسن فقال: لولا هذا ما حدَّثنا.
واستدلَّ لذلك الشافعي بحديث: «أُنْزِلَ الْقُرْآنُ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ» قال: فإذا كان الله لرأفته بخلقه أنزل كتابه على سبعة أحرفٍ، علمًا منه بأنَّ الحفظ قد يزلُّ لتَحِلَّ لهم قراءته وإن اختلف لفظهم فيه ما لم يكن في اختلافهم إحالة معنى، كانَ ما سوى كتاب الله أولى بذلك، قال ابن الصلاح: هذا الخلافُ إنَّما يجري في غير المصنفات، ولا يجوز تغيير شيء من تصنيفٍ وإبداله بلفظ آخر وإن كان بمعناه قطعًا، قال في «شرح التقريب»: لأنَّ الرواية بالمعنى رَخَّصَ فيها مَن رخَّصَ لما كان عليهم في ضبط الألفاظ من الحرج، وذلك غير موجود فيما اشتملت عليه الكتب؛ ولأنَّه إن ملك تغيير اللفظ فليس يملك تغيير تصنيف غيره. انتهى.
أقول: في النفسِ من كِلا العلتين المذكورتين علة، إذ الحديث السابق صريحه يقتضي عموم ما ضبط وما لم يضبط، وأنَّ المدار على عدم تحليل الحرام وعكسه وإصابة المعنى، وإذا جاز التصرف في حديث رسول الله ﷺ؛ فلأن يجوز في كلام الغير أولى، وعملُ العلماء قديمًا وحديثًا على نقلِ عبارات بعضهم بتصرفٍ وبدونه مع النسبة للأصل في كلٍّ، وقد روى من الكتب المصنفة بعد تصنيفها كثير من الأئمة والحفاظ ولم يتحرجوا من ذلك، والله أعلم، وينبغي للراوي بالمعنى أن يقول عَقِبه: أو كما قال أو نحوه أو شبهه؛ خوفًا من الزلل لِما في الرواية بالمعنى من الخطر.
قوله: (الْمَكِّيَانِ بِهَا)؛ أي: بمكةَ متعلقٌ بـ «أنبأني»، وكذا يقال في قوله: المدنيَّان بها.
قوله: (ابْنُ سَمَجُوْن)