المشدَّدة- ثلاثةٌ:
أحدها: أن يُسقط اسمَ شيخِه ويرتقي إلى شيخ شيخه أو مَنْ فوقه، فيسند عنه ذلك بلفظٍ لا يقتضي الاتِّصال، بل بلفظٍ موهمٍ له، فلا يقول: أخبرنا، وما في معناها، بل يقول: عن فلانٍ، أو قال فلانٌ، أو أنَّ فلانًا، موهمًا بذلك أنَّه سمعه ممَّن رواه عنه، وإنَّما يكون تدليسًا إذا كان المدلِّس قد عاصر الذي روى عنه، أو لقيه ولم يسمع منه، أو سمع منه ولم يسمع ذلك الذي دلَّسه عنه، فلا يُقبَل ممَّن عُرِف بذلك إلَّا ما صَرَّح فيه بالاتِّصال، كـ «سمعت»، وفي «الصَّحيحين» من حديث أهل هذا القِسم المصرَّح فيه بالسَّماع كثيرٌ؛ كالأعمش وقَتادة والثَّوريِّ، وما فيهما من حديثهم بالعنعنة ونحوها محمولٌ على ثبوت السَّماع عند المخرِّج من وجهٍ آخر، ولو لم نطَّلع عليه؛ تحسينًا للظَّنِّ
قوله: (ثَلَاْثَة) فيه نظرٌ، بل إن نظرنا إلى الأنواع فخمسة: تدليس شيوخ، وتدليس إسناد، وتدليس قطع، وتدليس عطف، وتدليس تسوية، وإن نظرنا إلى الأقسام فقسمان فقط، تدليس الإسناد، وتدليس الشيوخ، وكلها من تدليس الإسناد إلَّا الثالث في كلام الشارح فهو تدليس الشيوخ.
قوله: (أَحَدُهَا: أَنْ يُسْقِطَ اسْمَ شَيْخِهِ)؛ أي: لِصغره أو ضَعْفِهِ ولو عند غيره فقط، ويسمى هذا تدليس الإسناد وكان الأنسب أن يقول: أحدها تدليس الإسناد وهو أن يُسقط … إلى آخره؛ لتَحْسُن مقابلته بقوله فيما يأتي: وثانيها تدليس التسوية، وثالثها تدليس الشيوخ: ثم تسميته النوع المذكور تدليس إسناد هو المذكور في كلامهم، ولم يميزوه من بقية أنواع تدليس الإسناد باسم يخصه كما فعلوا بالبقية ولو سموه تدليس الإسقاط لكان له وجه، قال النووي: من تدليس الإسناد أن يسقط الراوي أداة الرواية مقتصرًا على اسم الشيخ فيقول: فلان، كما رُوِيَ عن علي بن خشرم قال: كنا عند ابن عيينة فقال: الزهري، فقيل له: حدَّثكم الزهري؟ فسكت، ثم قال: الزهري، فقيل له: سمِعْتَه من الزهريُّ؟ فقال: لا، ولا ممَّن سمِعَه من الزهريُّ، حدَّثنا عبد الرزاق عن معمر عن الزهري، وسماه شيخ الإسلام: تدليس القطع.
قُلْتُ: الظاهرُ أن تدليسَ القطع هو ما مثَّل له ابن حجر بما كان يفعله عُمَر (١) بن عبيد فكان يقول: حدَّثنا، ثم يسكت وينوي القطع، ثم يقول: هشام بن عروة، عن عائشة، وهذا هو الرابع، ومن تدليس الإسناد أيضًا تدليس العطف، وهو الخامس، وهو أن يُصَرِّحَ بالحديث عن شيخٍ له ويعطف عليه شيخًا آخر لم يسمع ذلك المروي عنه.
كما ذكره الحاكم في «علوم الحديث»، قال: اجتمع أصحاب هُشيم فقالوا: لا نكتب عنه اليوم شيئًا مما يُدَلِّسُهُ. ففطنَ لذلك، فلما جلسَ قال: حدَّثنا حُصين ومُغيرة، عن إبراهيم، وساق عدة أحاديث، فلما فَرَغ منها قال: هل دَلَّسْتُ لكم شيئًا، قالوا: لا، فقال: بل كلَّما حدَّثتكم عن حُصين فهو سماعي ولم أسمع من غيره من ذلك شيئًا، فهو محمول على أنَّه نوى العطف، فقوله: (وفلان)؛ أي: وحدَّث فلان.
قوله: (لَاْ يَقْتَضِي الْاتِّصَالَ)؛ أي: لئلا يكون كذبًا محضًا.
قوله: (قَدْ عَاصَرَ الْذِي رَوَى عَنْهُ) جعلَ هذا شيخُ الإسلامِ إرسالًا خفيًّا وخصّ التدليسَ بقسم اللُّقي وخرج بالمعاصرة على ما ذكره الشارح وما بعدها ما إذا روى عمَّن لم يدركه رأسًا بلفظٍ مُوهم فليس بتدليسٍ على المشهور وهو الصحيح، وقال قوم: إنه تدليس، فحدُّوْهُ بأنْ يحدِّث الرجل عن الرجل بما لم يسمعه منه بلفظٍ لا يقتضي تصريحًا بالسماع، قال ابن عبد البر: وعليه فما سَلِم من التدليس أحد!.
وتركَ الشارح شرطًا ثانيًا لهذا النوع: وهو أن لا يكون الراوي صحابيًّا فإن كان صحابيًّا وروى حديثًا لم يسمعه من النَّبيِّ ﷺ بل من صحابي آخر فيسمى مرسل صحابي، ولا يسمى تدليسًا؛ تأدُّبًا في حق الصحابة، فجُملة شروط هذا النوع أعني تدليس الإسناد شرطان: المعاصرة على غير مذهبِ شيخ الإسلام أو اللُّقي مع عدم السماع رأسًا أو سماع غير هذا الحديث، وكونه غير صحابي كما ذكره شيخ الإسلام، قلت: ومقتضاه أنَّه لو كان تابعيًا يسمى تدليسًا، وعليه فيكون المرسِلُ مُدَلِّسًا؛ فليُنظر.
قوله: (مِمَّنْ عُرِفَ بِذَلِكَ)؛ أي: التَّدْليس؛ لأنَّه قادحٌ في حقِّ من فعله، قال شيخ الإسلام: لا شكَّ أنَّه جرحٌ وإن وُصِفَ به الثوريُّ والأعمشُ فإنهما إنَّما كانا يفعلانه في حقِّ من يكون ثقة عندهما ضعيفًا عند غيرهما، وهو مكروه جدًا، لا حرام؛ لأنَّه ليس كذبًا، وإنَّما هو تحسين لظاهر الإسناد، وضرب من الإبهام بلفظٍ محتمل.
قوله: (إِلَّاْ مَا صَرَّحَ فِيْهِ بِالاتِّصَالِ)؛ أي: بأن قال راويه: حدَّثني فلان أو سمعت أو نحو ذلك فهو
مقبولٌ يُحتج به، وإن كان راويه مشهورًا بالتدليس؛ لأنَّه صرح بالسماع في هذا المروي بخصوصه فعلم أنَّه لم يدلس فيه، والغرض أنَّه ثقة، وإذا قيل ذلك ممن اشتهر بالتدليس فممَّن لم يشتهر به أولى، كما رَوَى مالكٌ، عن ثور، عن ابن عباس. فإنَّ مالكًا لم يَلْق ثورًا وإنَّما روى عن عكرمة، فإذا روى عنه بالسماع قُبِلَ وكان محتجًا به وحُمل على سماعه منه وإن لم نطَّلِعْ عليه، وإذا روى بالعنعنة ونحوها لم يُقبل إلَّا ممَّن التزم تخريج الصحيح كالبخاري ونحوه، وحُمل أيضًا على ثبوت السماع من طريق أخرى عند ذلك المخرِّج، ولذا وقع في الصحيحين من ذلك كثير كما ذكره الشارح، وإنَّما آثرا هذه الطريق على طريق التصريح بالسماع لكونها على شرطهما دون تلك، والتفصيل الذي جرى عليه الشارح هو مذهب أكثر الفقهاء والمحدثين والأصوليين، وهو قول الشافعي ويحيى بن معين وابن المديني، وصححه الخطيب وابن الصلاح.
وقيل: مردودٌ مطلقًا بَيَّنَ الاتصالَ أم لا، كان التدليس عن ثقة أو عن غيره، ندر أم لا، حكاه ابن الصلاح عن فريق من الفقهاء والمحدِّثين؛
(١) تعليق موسوعة البخاري: في المطبوع تصحيفًا: «معمر».