خبرٌ ظاهره السَّلامة؛ لجمعه شروط الصِّحَّة، لكن فيه علَّةٌ خفيَّةٌ فيها غموضٌ، تظهر للنُّقَّاد أطبَّاءِ السُّنَّةِ الحاذقين بعللها عند جمع طرق الحديث والفحص عنها؛ كمخالفة راوي ذلك الحديث لغيره ممَّن هو أحفظ وأضبط وأكثر عددًا، وتفرُّده وعدم المتابعة عليه، مع قرائنَ تنبِّه على وهمه في وصل مُرسَلٍ، أو رفع موقوفٍ، أو إدراج حديثٍ في حديثٍ، أو لفظةٍ أو جملةٍ ليست من الحديث أدرجها فيه، أو وهمٍ بإبدال راوٍ ضعيفٍ بثقةٍ، ويقع في الإسناد والمتن: فالأوَّل: كحديث يعلى بن عبيدٍ عن الثَّوريِّ عن عمرو بن دينارٍ: «البيِّعان بالخيار» صرَّح النُّقَّاد بأنَّ «يعلى» غَلِطَ، إنَّما هو عبد الله بن دينار لا عمرو بن دينارٍ، وشذّ بذلك عن سائر أصحاب الثَّوريِّ، وسبب الاشتباه: اتِّفاقهما في اسم الأب، وفي غير واحدٍ من الشُّيوخ،
من عَلَّلَهُ يُعَلِّلُهُ تَعْلِيْلًا: شَغَلَهُ، وألهاهُ فهوَ مُعلل، ومنه تعليل الصبي بالطعام ونحوه، ولا يخفى أنَّه ليس مما نحن فيه أيضًا، إذ هو من باب التعليل بمعنى ذِكْر العلة المؤثرة، ولذا قال القرافي: الأجودُ بل الصواب فيما هنا المُعَلُّ كما هو قياس اسم المفعول من أَعَلَّ. انتهى.
إنْ قُلت: هذا أيضًا ليس مما نحن فيه؟
أُجيب: بأنَّه وإن لم يكن منه حقيقةً هو منه مجازًا، وصحَّح بعضهم التعبير بالمُعلَّل بطريق التجوز أيضًا لكن بمعنى مطلق التسامح لا بمعنى المصطلح عليه كما فيما قبله.
هذا، وما ذكره الشارح من أنَّه لا يَقال: معلول، وقول ابن الصلاح: إنَّه مردود لغة وعربيةً، رَدَّهُ ابن هشام في «شرح بانت سعاد»، ونُقل عن الجوهري وغيره أنَّه يقال: أَعَلَّهُ فهو مَعْلُوْلٌ. إلَّا أنَّه قليلٌ، وقال ابن حجر: إِنَّهُ الأولى لوقوعه في عبارات أهل الفن مع ثُبوته لغةً، ومن حَفِظَ حُجَّةٌ.
وقال في «نسيم الرياض»: إنَّهم استغنوا بمفعول عن مُفعل كما قالوا: «أحمد الله» فهو محمود، قال: وقد صرَّحَ به سِيْبَوْيه ونقله ابن سِيْدَه في «المحكم». انتهى.
وأوضح ذلك ابن الطيب في «شرح نظم الفصيح» وغيره فتلخصَّ أنَّه يصح أن يقال فيما هنا: مُعَل ومُعَلَّل ومَعْلُول خلافًا لمن منعَ في الأخيرين.
قوله: (ظَاهِرُهُ السَّلَاْمَة)؛ أي: من العِلَلِ القادحة في قبوله.
وقوله: (لِجَمْعِهِ) في نسخ (بجمعه) بالموحدة، فالباء للسببية.
وقوله: (شُرُوْطَ الصِّحَّةِ) تقدم أنَّها اتصالُ سندهِ بعدولٍ ضابطين إلى منتهاه من غير شذوذ ولا علة قادحة.
قوله: (لَكِنْ فِيْهِ عِلَّةً)؛ أي: طرأت عليه فأثرت فيه، بأن اطُّلع فيه بعد البحث والتفتيش في طرقه على عِلَّةٍ قادحةٍ كما أوضحه الشارح.
وقوله: (فِيْهَا غُمُوْضٌ) بيانٌ وتفسيرٌ لقوله (خفية)، وقد مَثَّلَ الشارح للخفية بقوله: (كَمُخَالَفَةِ رَاوٍ … ) إلى آخره، فخرجَ بالخفيةِ الظاهرة؛ كإرسالِ الموصول ووقف المرفوع إذا كان راوي الإرسال والوقف أضبط أو أكثر عددًا من راوي الوصل أو الرفع فلا يُسمى الحديث بذلك معللًا اصطلاحًا، كإعلاله بكلِّ قدحٍ ظاهرٍ من فِسق في راويه أو غَفلة منه أو سوء حفظ أو نحو ذلك من أسباب ضعف الحديث، إذ الإرسال الجلي والوقف الجلي وكذا القطع الجلي والإدراج وغيرها لا يُطلق عليها في الاصطلاح المشهور اسم العلة، وإنَّما يُطلق على ما كان منها خفيًّا إذ لا يكون الحديث معلولًا عند الجمهور إلَّا إذا كانت العلة قادحة فيه وهي الخفية؛ كإبدال راوٍ بآخر، أو زيادة كلمة فيه لم يذكرها الجمهور، أو إعلال الموصول بالإرسال أو الوقف إذا كان راويهما أضبط أو أكثر عددًا، وأعلَّ الخليلي بغيرِ القادحةِ توسعًا كما إذا كان رواة الوقف أو الإرسال غير أضبط أو أكثر عددًا، أو كانت العِلَّة في السَّند لا في المتن على ما يأتي حتى قال: من أقسام الصحيح صحيح معلول ممثِّلًا له بحديث مالك في الموطأ أنَّه بلغه أن أبا هريرة قال: «لِلْمَمْلُوكِ طَعَامُهُ وَكِسْوَتُهُ» حيثُ وَصَلَهُ مالك في غير الموطأ فرواهُ عن محمد بن عَجلان، عن أبيه، عن أبي هريرة. قال: فقد صار الحديث بتبين الإسناد صحيحًا يعتمد عليه، ونقل عنه أنَّه شدَّد فردَّ بكل علة ولو غير قادحة.
قوله: (كَمُخَالَفَةِ رَاوِي ذَلِكَ الحَدِيْثِ … ) إلى آخره؛ أي: كما في حديث يَعلى بن عبيد الآتي، فإنَّه رواه عن عمرو بن دينار، وغيره إنَّما رواه عن أخيه عبد الله بن دينار.
وقوله: (وتفرده … ) إلى آخره؛ أي: كما في حديث مسلم الذي ساقه الشارح أيضًا من جهة الأوزاعي المشتمل على التصريح بنفي الافتتاح بالبسملة؛ فإنَّ هذه الزيادة انفرد بها الراوي ولم يتابعه أحدٌ عليها.
قوله: (علَى وَهَمِه) بفتح الهاء؛ أي: غَلَطِهُ في تلك المخالفة، من وصلِ المرسل أو غير ذلك مما ذكره الشارح.
وعبارة «التقريب وشرحه»: وتُدرك العلةُ بتفردِ الراوي وبمخالفة غيره له مع قرائن تنضم إلى ذلك تُنَبِّهُ العارفَ بهذا الشأنِ على وهمٍ وقع؛ بإرسالٍ في الموصول أو وقفٍ في المرفوع أو دخولِ حديث في حديث أو غير ذلك بحيث يغلب ذلك على ظنه فيحكم بعدم صحة الحديث أو يتردد فيتوقف فيه. انتهى.
ثمَّ قال: والطريق إلى معرفته جمع طرق الحديث، والنظر في اختلاف رواته وضبطهم وإتقانهم، قال ابن المديني: البابُ إذا لم تُجمع طُرقه لم يتبين خطؤه، وكَثُرَ التعليلُ بالإرسال للموصول بأن تكون رواته أقوى ممن وصل. انتهى.
قوله: (وَيَقَعُ فِي الْإِسْنَادِ … ) إلى آخره؛ أي: تقعُ العلة في الإسناد والمتن، قال الجلال: ووقوعها في الإسناد أكثر. انتهى.
وذلك بأن يختلف السند عن راوٍ واحدٍ فيرويه كلٌّ من الجماعة على وجهٍ مخالفٍ للآخر في وصله وإرساله أو في إثبات راوٍ وحذفه أو غير ذلك، وإذا وقعت في الإسناد فقد تقدح فيه وفي المتن أيضًا، كإرسال سند متصل، أو وقف مرفوع، أو إدراج أو غير ذلك ولم يقوَ الاتصال أو الرفع على الإرسال أو الوقف، وقد لا تقدحُ فيه بأن يتعدد السند أو يقوى الاتصال ونحوه، أو يكون الذي وقع