من راوٍ واحدٍ، بأن رواه مرَّةً على وجهٍ، وأخرى على آخرَ مخالفٍ له، أو رواه أكثر بأن يضطرب فيه راويان فأكثرُ، ويكون في سند رواته ثقاتٌ؛ كحديث: «شيَّبتني هودٌ وأخواتها» فإنَّه اختُلِف فيه على أبي إسحاق، فقِيلَ: عنه عن عكرمة عن أبي بكرٍ، ومنهم من زاد بينهما ابن عبَّاس، وقِيلَ: عنه عن أبي جُحيفة عن أبي بكرٍ، وقِيلَ: عنه عن البراء عن أبي بكرٍ، وقِيلَ: عنه عن أبي ميسرةَ عن أبي بكرٍ، وقِيلَ: عنه عن مسروقٍ عن عائشة عن أبي بكرٍ، وقِيلَ: عنه عن علقمةَ عن أبي بكرٍ، وقِيلَ: عنه عن عامر بن سعدٍ البُجليِّ عن أبي بكرٍ، وقيل: عنه عن عامر بن سعدٍ عن أبيه عن أبي بكرٍ، وقيِلَ: عنه عن مصعب بن سعدٍ عن أبيه عن أبي بكرٍ، وقِيلَ: عنه عن أبي الأحوص عن ابن مسعودٍ. وقد يكون الاضطراب في المتن، وقلَّ أن يوجد مثالٌ سالمٌ له؛ كحديث نفي البسملة، حيث زال الاضطراب عنه بحمل نفي القراءة على نفي السَّماع، ونفي السَّماع على نفي الجهر، كما قُرِّرَ في موضعه من المطوَّلات، ثمَّ إنَّ الاضطراب سواءٌ كان في السَّند أو في المتن
على الأخرى، ولم يُمْكن الجمع بينهما، أمَّا إن ترجحت بكونِ راويها أحفظ أو أكثر صحبة للمروي عنه أو غير ذلك من وجوه الترجيح الآتية فلا يكون الحديث مضطربًا، والحكم للوجه الراجح واجب إذ لا أثر للمرجوح، ولا اضطراب أيضًا إذا أمكنَ الجمعُ بحيثُ يمكن أنَّ المتكلم عبَّر بألفاظٍ عن معنى واحد وإن لم يترجح منها شيء.
قوله: (مِنْ رَاوٍ … ) إلى آخره، متعلقٌ بما رُوِيَ وسيأتي مقابله بقوله: (أو رواه أكثر).
قوله: (وَيَكُوْنُ فِيْ سَنَدٍ … ) إلى آخره؛ أي: إنَّه نوعان: مضطرب في السند، ومضطرب في المتن، وسيأتي ذكره بقوله: (وَقَدْ يَكُوْنُ الاضْطِرَابُ فِيْ الْمَتْنِ … ) إلى آخره، وترك ثالثًا وهو الاضطراب في السند والمتن معًا، ذكره الجلال في «شرح التقريب» وسنذكرهُ بعد الكلام على الأوَّلَين، والاضطراب في السند يكون بالوصل والإرسال بإثباتِ راوٍ وحذفه وغير ذلك من موانعِ القبول، والاضطراب في المتن يكون في لفظه أو معناه أو فيهما.
قوله: (رُوَاتُهُ ثِقَاتٌ)؛ أي: وإلَّا فلا اضطراب بالضعيفِ إذ لا اعتبارَ بِهِ.
قوله: («شَيَّبَتْنِي هُوْدُ») قال الطِّيبي: صحَّ (هود) في الحديث غير منصرف؛ لأنَّه اسم للسورة لا النَّبيَّ ففيه العلمية والتأنيث. انتهى.
قلت: وَرُوي بالصَّرف على تقديرِ إضافةِ سورةٍ إليه، فإنَّه يُصرف إذا أضيفت إليه لفظًا أو تقديرًا كما في «الهمع»، ولعله لكون مجموع المضاف الملفوظ أو المقدر والمضاف إليه علمًا لا المضاف إليه فقط، ثم المُراد بهود ما ذكر فيها من قوله تعالى: ﴿فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ﴾ [هود: ١١٢] وبأخواتها نظائرها في ذلك، وسببُ الحديث أن أبا بكر ﵁ قال: «يَا رَسُوْلَ اللهِ أَرَاكَ شِبْتَ» فذَكره.
قوله: (فَإِنَّهُ اخْتُلِفَ فِيْهِ عَلَى أَبِي إِسْحَاقٍ)؛ أي: فإنَّه لم يُروَ إِلَّا من طريقه، واخْتُلِفَ عليهِ فيهِ على أحدَ عشرَ وجهًا كما فَصَّلَهُ الشَّارح، ورواته ثِقاتٌ لا يُمكن ترجيحُ بعضهم على بعض والجمعُ متعذرٌ.
قوله: (وَمنْهُم)؛ أي: من الرواة.
وقوله: (مَنْ زَادَ بَيْنَهُمَا)؛ أي: بين عِكرمة وأبي بكر.
قوله: (جُحَيْفَةَ) بتقديم الجيم المضمومة على المهملة المفتوحة مُصغرًا، واسمه وَهب بن عبد الله.
قوله: (سَالِمٌ لَهُ)؛ أي: بأنْ يكونَ جامعًا للشروط المتقدمة، بل الغالب أن يكون في أحد طرقه ضعفٌ، أو يمكن الجمع بينهما كما في الحديث الذي أشار له الشارح وتقدَّم في المعلول، وكما قيل في حديث فاطمة بنت قيس قالت: سئل النَّبيُّ ﷺ عن الزكاة فقال: «إِنَّ فِي المَالِ حَقًّا سِوَى الزَّكَاةِ» رواه الترمذي هكذا من رواية شَريك، عن أبي حمزة، عن الشعبي، عن فاطمة، ورواه ابن ماجه من هذا الوجه بلفظ «لَيْسَ فِيْ الْمَالِ حَقٌّ سِوَى الزَّكَاةِ» قال: فهذا اضطرابٌ لا يحتملُ التأويلَ، ورُدَّ بأنَّ شيخ شَريك ضعيف فهو مردودٌ من قبل ضعف راويه، وأيضًا فيمكن تأويله بأنَّها رَوت كلًّا من اللفظين عنه ﷺ وأنَّ المراد بالحق المثبت المُستحب، وبالمنفي الواجب.
قيل: والمثال الصحيح ما وقع من حديث الواهبة نفسها له ﷺ من الاختلاف في اللفظة الواقعة منه ﷺ، ففي رواية: «زَوَّجْتُكَهَا»، وأخرى: «زَوَّجْنَاكَهَا»، وأُخرى: «أَمْكَنَّاكَهَا»، وأخرى «مَلَّكْتُكَهَا»، فهذهِ ألفاظٌ لا يُمكن الاحتجاج بواحد منها حتى لو احتج حنفي مثلًا على أنَّ التمليك من ألفاظ النكاح لم يسغْ لهُ ذلك. انتهى.
وَرَدَّهُ الجلالُ بأنَّ الحديثَ صحيحٌ ثابتٌ، وتأويل هذه الألفاظ سهل فإنَّها راجعة إلى معنى واحد بخلاف الحديث السابق. انتهى.
قلتُ: لعلَّ المعنى الواحد هو إباحة النكاح، ويمكن تأويل (ملَّكْتُكَهَا) بمعنى (ملَّكْتُكَ بضْعَها)؛ أي: الانتفاع به، ويظهر أنَّ ذلك غيرُ ظاهرٍ؛ إذ النظر إلى اللفظ الذي وقع منه ﷺ وتقع به تلك الإباحة، ولا شكَّ أنَّه مضطرب إذ يبعدُ أن تكونَ جميعُ هذه الألفاظ وقعت منه ﷺ حالَ النِّكاح، ولم يردْ أنَّ الواقعة تعددتْ فتعين أن يكون الصادر منه ﷺ أحد هذه الألفاظ، وإذا عَوَّلنا على أحدها بما هو بلفظ التمليك دلَّ على أنَّه بهِ صحيحٌ أو بما هو بغيره كان ما هو به غير صحيحٍ، وهذا هو الاضطرابُ.
قوله: (كَحَدِيْثِ نَفْيِّ البَسْمَلَةِ)؛ أي: المرويِّ عن أنس السابق إذ قال فيه: «صَلَّيْتُ خَلْفَ النَّبِيِّ ﷺ وأبي بَكْرٍ وَعُمَرُ فَكَانُوْا يَسْتَفْتِحُونَ بـ ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [الفاتحة: ٢] لَاْ يَذْكُرُونَ ﴿بِسْمِ اللَّهِ الرحمن الرَّحِيمِ﴾ [الفاتحة: ١]» فإنَّه اخْتُلِفَ في مَتنه اختلافًا كثيرًا، فمنهم من قال: «فَكَانُوْا لَا يَقْرؤُوْنَ ﴿بِسْمِ اللَّهِ … ﴾ إلى آخره»، ومنهم من قال: «فَكَانُوْا لَاْ يَجْهَرُوْنَ بِهَا»، ومنهم من قال: «فَكَانُوْا يَفْتَتِحُونَ الْقِرَاءَةَ بِـ ﴿الْحَمْدِ للهِ﴾»، ومنهم من قال: «فَكَانُوْا يَقْرؤُوْنَ ﴿بِسْمِ اللَّهِ الرحمن الرَّحِيمِ﴾» وهذا اضطرابٌ بَيِّنٌ.
وأما الاضطرابُ في السند والمتن فكحديث البسملة أيضًا، أما اضطرابه في المتن فقد عرفته، وأمَّا اضطرابه في السند فإنَّ مالكًا رواه في الموطأ عن حُميد، عن أنس، ورواه مسلم عن قتادة أنَّه كتب إليه يخبره عن