عدلًا مُتقِنًا، ويُعرَف إتقانه بموافقة الثِّقات، ولا تضرُّ مخالفته النَّادرة، ويُقبَل الجرح إنْ بَانَ سَبَبُه، للاختلاف فيما يوجب الجرح، بخلاف التَّعديل فلا يُشتَرط، ورواية العدل عمَّن سمَّاه لا تكون تعديلًا،
كافرٌ ومجنونٌ مُطْبِقٌ بالإجماعِ، ويقبل متقطع الجنون إن لم يُؤثِّر زمن إفاقته ولا صبيٌّ على الأصحِ، وقيل: يقبلُ المميزُ إن لم يجرَّبْ عليه الكذبُ.
قوله: (عَدْلًا) فُسِّرَ بسلامتهِ من الفسق وخوارم المروءة لحديث ابن عمر مرفوعًا: «كَانَ يَأْمُرُنَا أَنْ لَاْ نَأْخُذَ إِلَّا عَنْ ثِقَةٍ»، وروى الشافعي عن يحيى بن سعيد قال: سألت ابنًا لعبد الله بن عمر عن مسألة فلم يقل فيها شيئًا، فقيل له: إنَّا لنُعظِم أن يكون مثلك ابن إمامَيْ هُدَى تُسأل عن أمر ليس عندك فيه علم! فقال: أعظم والله من ذلك عند الله، وعند مَن عرف الله، وعند من عقل عن الله أن أقول بما ليس لي فيه علم أو أخبر عن غير ثقة.
وتثبت العدالة بتنصيص عالِمَين عليها، أو بالاستفاضة والشهرة؛ فمن اشتهرت عدالته من أهل العلم وشاعَ الثناءُ عليه بها كفى، ولا يحتاجُ مع ذلك إلى معدِّلٍ ينصُّ عليها كمالك والشافعي والسُّفْيَانين وأحمد ابن حنبل، وهذا هو المعتمد.
وتوسعَ ابن عبد البر فقال: كلُّ حاملِ علمٍ معروفُ العناية به فهو عدل محمول في أمره أبدًا على العدالة حتى يتبين جرحه؛ لحديث: «يَحْمِلُ هَذَا العِلْم مِنْ كُلِّ خَلَفٍ عُدُولُه»، وقد تقدَّمَ الكلام على هذا الحديث في الفصل الأول.
قوله: (مُتْقِنًا)؛ أي: ضابطًا، بأن يكون متيقظًا غير مُغَفَّلٍ، حافظًا إن حدَّثَ من حفظه، ضابطًا لكتابه من التغيير والتبديل إن حدَّث منه، عالمًا بما يحيلُ المعنى إن روى به.
قوله: (لِمُوَافَقَتِهِ الثِّقَاتِ)؛ أي: الضابطين إذا اعتبرَ حديثه بحديثهم، فإن وافقهم في روايتهم غالبًا ولو من حيث المعنى فضابطٌ.
قوله: (النَّادِرَة) فإن كثرتْ مخالفته لهم، وندرتْ موافقته اختلَّ ضبطه ولم يحتجَّ به.
قوله: (وَيُقْبَلُ الجَرْحُ)؛ أي: الطعن في الراوي.
وقوله: (إِنْ بَانَ سَبَبُهُ)؛ أي: فلا يُقبل غير مبيَّن السببِ.
وقوله: (لِلْاِخْتِلَافِ فِيْمَا يُوْجِبُ الجَرْحَ)؛ أي: لأنَّ النَّاسَ يختلفونَ في أسبابِ الجرحِ فيُطلق
أحدهم الجرحَ بناءً على ما اعتقده جرحًا، وليس بجرحٍ في نفسِ الأمرِ، فلا بدَّ من بيان سببه ليُنظر هل هو قادحٌ أو لا؟.
قال ابن الصلاح: وهذا هُوَ المقررُ في الفقه والأصول، وذكرَ الخطيب أنَّه مذهبُ الأئمة من حفاظ الحديث كالشيخين، ولذلك احتجَّ البُخاري بجماعةٍ سبق من غيره الجرح لهم كعِكْرِمة وعمرو بن مرزوق، وكذا فعلَ مسلم وأبو داود، وذلك دالٌّ على أنَّهم يرونَ أن الجرحَ لا يثبت إلَّا إذا فُسِّرَ سببُهُ، فإنَّه ربما استُفْسِر الجارح فذكر ما ليس بجرحٍ، كما قيلَ لشُعبة: لِمَ تركتَ حديثَ فلان، قال: رَأَيْتُهُ يركضُ على برذون فتركت حديثه، وقال هو: أتيتُ منزل المِنهال بن عمرو فسمعت صوت الطُنْبُور فرجعتُ، فقيل له: فهلَّا سألتَ عنهُ، إذ لا يعلم هو؟!.
قال الصيرفي: وكذا إذا قالوا: (فلان كذَّاب) لا بدَّ من بيانه؛ لأنَّ الكذبَ يحتملُ الغلط كقوله: (كذب فلان).
قوله: (بِخِلَاْفِ التَّعْدِيْلِ)؛ أي: فلا يشترطُ ذكرُ سببه؛ لأنَّ أسبابهُ كثيرةٌ فيَشق ذكرها، إذ ذلك يُحوج المعدِّل إلى أن يقول: لم يفعل كذا، لم يرتكب كذا، فعل كذا وكذا، فيُعددُ جميعَ ما يُفَسَّقُ بفعلهِ أو تركه، وذلك شاقٌّ، بخلافِ الجرحِ فإنَّهُ يحصلُ بأمرٍ واحدٍ، وما ذكر في الجرح والتعديل هو الصحيح.
وقيل: يُقبل الجرحُ غير مفسَّرٍ ولا يُقبل التعديل إلَّا مُفَسَّرًا؛ لأنَّ أسباب العدالة يكثرُ التَّصَنُّعُ فيها، وقيل: لا يُقبلان إلَّا مفسَّرَين؛ لأنَّه كما يجرحُ الجارح بما لا يقدح كذلك يوثق المعدِّل بما لا يقتضي العدالة، كما قال إنسان لأحمد بن يونس: عبد الله العمري ضعيفٌ، فقال: إنَّما يضعفُهُ رافضيٌّ مبغضٌ لو رأيت لحيته وهيئته لعرفت أنَّه ثقةٌ، فاستدلَّ على ثقته بما ليس بحجة فإنَّ حسن الهيئة يَشترك به العدل وغيره.
وقيل: لا يجب ذكرُ السبب في واحد منهما إذا كان الجارحُ والمعدِّل عالمًا بأسباب الجرح والتعديل، وصحَّحَهُ العراقي والبُلقيني.
وقال شيخ الإسلام: إن كانَ وثَّقه أحد من أئمةِ هذا الشأن لم يُقبل الجرح فيه من أحدٍ إلَّا مُفسرًا؛ لأنَّه قد ثبتت له رتبةُ الثقةِ فلا يزحزحُ عنها إلَّا بأمرٍ صريح، وإن خلا عن التعديل قُبِلَ الجرحُ غيرَ مُفَسَّرٍ إذا صدرَ من عارفٍ؛ لأنَّه إذا لم يُعدَّل فهو في حيز المجهول وإعمال قول الجارح فيه أولى من إهماله، والصحيح أنَّ الجرح والتعديل يثبتان بواحد، وقيل: لا بدَّ من اثنين كالشهادة، وإذا اجتمع جرح وتعديل فالجرحُ مقدمٌ، ولو زادَ عددُ المعدِّل على الأصح عند الفقهاء والأصوليين؛ لأنَّ مع الجارح زيادةُ علمٍ لم يطلعْ عليها المُعَدِّلُ.
وقَيَّدَ الفقهاءُ ذلك بما إذا لم يقل المعدِّل: عرفتُ السبب الذي ذكره الجارح، ولكنه تابَ وحسُنَت حالتهُ فإنَّهُ حينئذٍ يقدمُ، قال البُلقيني: ويأتي ذلك أيضًا هنا إلَّا في الكذب.
قوله: (وَرِوَايَةُ العَدْلِ عَمَّنْ سَمَّاهُ)؛ أي: عن شخص يُسمِّيه في روايته.
وقوله: (لَاْ يكُوْنُ تَعْدِيْلًا)؛ أي: حُكمًا منه بتعديله نظرًا إلى أنَّه لم يذكر فيه جرحًا؛ وذلك لجواز رواية العدل عن غير العدل