للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وإلَّا قُبِلَ؛ لاحتجاج البخاريِّ وغيره بكثيرٍ من المبتدعين غير الدُّعاة، ويُقبَل التَّائب وينبغي أن يُعرَف من اختلط من الثِّقات في آخر عمره لفساد عقله وخرفه؛ ليتميَّز من سمع منه قبل ذلك، فيُقبَل حديثه، أو بعده فيُرَدُّ، ومن رُوِيَ عنه منهم في الصَّحيحين

لكنه يدعو إلى بدعته فلا يحتجُّ به أيضًا؛ لأنَّ تزيين بدعته قد يحمله على تحريف الروايات وتسويتها على ما يقتضيه مذهبه.

قوله: (وَإِلَّا)؛ أي: بأنْ لم تكن بدعته بدعة كفر ولم يدعُ إلى بدعته.

وقوله: (قُبِلَ)؛ أي: على الراجح الذي عليهِ أكثرُ العلماء، وقيل: غيرُ الكافر ببدعته لا يحتج به مطلقًا أيضًا؛ لأنَّه فاسق ببدعته وإن كان متأوِّلًا كما يستوي الكافر المتأول وغيره.

وقيل: يحتجُّ به إن لم يكن ممَّن ينتحل الكذب في نُصرة مذهبه أو لأهلِ مذهبه سواءٌ كان داعيةً أم لا، وحُكِيَ هذا القولُ عن الشافعي؛ لأنَّه قال: أقبل شهادة أهل الأهواء إلَّا الخطَّابية؛ لأنَّهم يرون الشهادة بالزور لموافقيهم.

وقيَّد جماعة قبوله بما إذا لم يرو ما يقوي بدعته، وبه جزم شيخ الإسلام في «النخبة».

والصحيح أنَّه لا تُقبل رواية الروافض وسابِّ السلف كما ذكره النووي في «الروضة»؛ لأنَّ سُباب المسلم فسوق، والصحابة والسلف أولى، وقد صرَّحَ بذلك الذهبي في «الميزان» فقال: البدعةُ على ضربين: صغرى كالتشيُّع بلا غلوٍّ، أو بغلوٍّ كَمَّنْ تكلمَ في حقِّ مَنْ حاربَ عليًّا، فهذا كثير في التابعين وتابعيهم مع الدين والورع والصدق، فلو رُدَّ هؤلاء لذهب جملة من الآثار، ثم بدعة كبرى كالرفض الكامل والغلو فيه والحطِّ على أبي بكر وعمر والدعاء إلى ذلك فهذا النوع لا يحتجُّ بهم ولا كرامة. انتهى.

قال الجلال السيوطي: وهذا هو الصواب الذي لا يحلُّ لمسلمٍ أن يعتقد خلافه.

تنبيه: من المُلحقِ بالمُبْتَدِعَة مَنْ دأبه الاشتغال بعلوم الفلسفة والمنطق والطبيعة ونحوها، فإن اعتقدَ ما فيها من قِدَم العالم ونحوه فكافرٌ، أو ما ورد الشرع بخلافه وأقام الدليل الفاسد على طريقتهم خُشي عليه أن تَغْلِبَ تلكَ العقائدُ على قلبِهِ فيكون ممن رانَ على قُلوبهم ما كانوا يكسبون، وقد صَرَّحَ بالحطِّ على مَن ذكر وعدم قبول روايتهم وأقوالهم ابن الصلاح والنووي وغيره من الشافعية، وابن عبد البر وغيره من المالكية، والحافظ سراج الدين القزويني وغيره من الحنفية، وابن تيمية وغيره من الحنابلة.

فائدة: حكى النووي أنَّ الناقلين للحديث سبع طبقات، ثلاثٌ مقبولة وثلاثٌ مردودة، والسابعة مختلف فيها.

فالأولى من المقبولة: أئمة الحديث وحفاظهم؛ يُقبل تفرُّدهم، وهم الحجَّة على من خالفهم.

والثانية: دونهم في الحفظ والضبط لحقهم بعضُ وَهَمٍ.

والثالثة: قوم ثبت صدقهم ومعرفتهم لكن جنحوا إلى مذهب الأهواء من غير أن يكونوا غلاة ولا دعاة، فهذه الطبقات تَحَمَّلَ أهلُ الحديث الروايةَ عنهم، وعليهم يدور نقل الحديث.

والأولى من المردودة: مَنْ وُسِمَ بالكذب ووَضْعِ الحديث.

والثانية: مَن غلب عليه الوَهَمُ والغلط.

والثالثة: قوم تغالَوا في البدعة ودعوا إليها فحرَّفوا الروايات ليحتجوا بها.

وأما السابعة المختلف فيها: فقوم مجهولون انفردوا بروايات، فقَبِلَهم قوم وردهم آخرون. انتهى.

قوله: (ويقبل التائب)؛ أي: من الفسق والكذب كالشهادة لكن في غير الكذب في الحديث النبوي، أما هو فلا تُقبل رواية التائب منه أبدًا وإن حسُنت طريقته على ما قاله الحميدي والصيرفي من الشافعية وهو مذهب الإمام أحمد، وصادمه النووي وقال: إنه مخالف لقواعد المذاهب، فردَّه الجلال في «شرح التقريب» وقال: ليس بمخالف، والحق ما قاله الإمام أحمد؛ لأنَّ الظاهرَ تَكَرُّرُ ذلك منه حتى ظهر لنا، ولم يتعين لنا ذلك فيما روى من حديثه فوجب إسقاط الكل. انتهى.

قوله: (وينبغي أن يُعرَف من اختلط)؛ أي: اختلَّ ضبطُهُ، قال النَّووي: وهذا مهمٌّ لا يُعْرَف فيه تصنيفٌ مفردٌ، وهو حقيقٌ به. انتهى.

وقد صنَّفَ فيه الحافظ العلائي وغيره.

قوله: (وخُرْقِهِ) قال في «القاموس»: الخُرق بالضم وبالتحريك ضد الرفق، وأن لا يُحسن الرجل العمل والتصرف في الأمور والحُمق، ثم قال: خَرِقَ كفرح وكرم. انتهى.

وربما اختلطَ لذهاب بصره أو تلف كتبه، والاعتماد على حفظه.

قوله: (أو بعده)؛ أي: أو شكَّ فيه، ويُعرف ما ذكر باعتبار الرواة عنهم، فمنهم عطاء بن السائب اختلط في آخر عمره فاحتجوا برواية الأكابر عنه كالثوري وشعبة وابن عيينة، رُوي عنه أنَّه قال: سمعت من عطاء قديمًا، ثمَّ قَدِم علينا قَدمةً فسمعته يُحدث ببعضِ ما كنت سمعتُ فخلط فيه فاتقيته واعتزلته، وسَمِعَ منه قبل الاختلاط أيضًا: هشام الدَّسْتوَائي ويحيى بن سعيد وحماد بن زيد، وجميع مَن سمع منه غير أولئك فبعدَ الاختلاط.

ومنهم: أبو إسحاق السَّبِيْعِي، وممَّن سمعَ منه بعد الاختلاط سُفيان بن عُيينة، ولذا لم يخرج له الشيخان من روايته عنه شيئًا، وقَبْلَهُ جرير بن حازم وإسماعيل بن أبي خالد والأعمش.

ومنهم: ابن أبي عَرُوْبَة، وممَّن سمع منه قبل الاختلاط يزيد بن هارون وعَبْدَة

<<  <   >  >>