للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

لم يصحَّ على شرطه، أو يأتي بلفظ الحديث الذي لم يصح على شرطه صريحًا في التَّرجمة، ويورد في الباب ما يؤدِّي معناه تارةً بأمرٍ ظاهرٍ، وتارةً بأمرٍ خفيٍّ، من ذلك قوله: «باب الأمراء من قريش»، وهذا لفظ حديثٍ يُروَى عن عليٍّ، وليس على شرط البخاريِّ، وأورد فيه حديث: «لا يزال والٍ من قريش»، وربَّما اكتفى أحيانًا بلفظ التَّرجمة التي هي لفظ حديثٍ لم يصحَّ على شرطه، وأورد معها أثرًا أو آيةً، فكأنَّه يقول: لم يصحَّ في الباب شيءٌ على شرطي، وللغفلة عن هذه المقاصد الدَّقيقة اعتقد مَن لم يمعن النَّظر أنَّه ترك الكتاب بلا تبييضٍ، وبالجملة؛ فتراجمه حيَّرت الأفكار، وأدهشت العقول والأبصار، ولقد أجاد القائل:

أعيا فحولَ العلم حَلُّ رموز ما … أبداه في الأبوابِ من أسرارِ (١)

وإنمَّا بلغت هذه المرتبة، وفازت بهذه المنقبة؛ لما رُوِيَ أنَّه بيَّضها بين قبر النَّبيِّ ومنبره، وأنَّه كان يصلِّي لكلِّ ترجمةٍ ركعتين.

وأمَّا تقطيعه للحديث واختصاره، وإعادته له في الأبواب وتكراره؛ فقال الحافظ أبو الفضل بن طاهرٍ في «جواب المتعنِّت»: اعلم أنَّ البخاريَّ - رحمه الله تعالى - كان يذكر الحديث في كتابه في مواضعَ، ويستدلُّ به في كل بابٍ بإسنادٍ آخر، ويستخرج منه معنًى يقتضيه الباب الذي أخرجه فيه، وقلَّما يورد حديثًا واحدًا في موضعين بإسنادٍ واحدٍ ولفظٍ واحدٍ، وإنَّما يورده من طريقٍ أخرى لمعانٍ يذكرها، فمنها: أنَّه يخرِّج الحديث عن صحابيٍّ، ثمَّ يورده عن صحابيٍّ آخر؛ والمقصود منه: أن يُخْرِجَ الحديث من حدِّ الغرابة، وكذا يفعل في أهل الطَّبقة الثَّانية والثَّالثة وهلمَّ جرًّا إلى مشايخه، فيعتقد من يرى ذلك من غير أهل الصَّنعة أنَّه تكرارٌ، وليس كذلك؛ لاشتماله على فائدةٍ زائدةٍ، ومنها: أنَّه صحَّح أحاديث على هذه القاعدة يشتمل كلُّ حديثٍ منها على معانٍ متغايرةٍ، فيورده في كلِّ بابٍ من طريقٍ غير طريق الأوَّل، ومنها: أحاديثُ يرويها بعض الرُّواة تامَّةً وبعضهم مُختصرةً، فيرويها كما جاءت؛ ليُزيل الشُّبهة عن ناقلها، ومنها: أنَّ الرُّواة ربَّما اختلفت عباراتهم، فحدَّث راوٍ بحديثٍ فيه كلمةٌ تحتمل معنًى آخر، فيورده بطرقه إذا صحَّت على شرطه، ويفرد لكلِّ لفظةٍ بابًا مفردًا، ومنها: أحاديث تعارض فيها الوصل والإرسال، ورجح عنده الوصل، فاعتمده وأورد الإرسال منبِّهًا على أنَّه لا تأثيرَ له عنده في الموصول، ومنها: أحاديثُ تعارض فيها الوقف والرَّفع، والحكم فيها كذلك، ومنها: أحاديثُ زاد فيها بعض الرُّواة رجلًا في الإسناد، ونَقَصَهُ بعضُهم، فيوردها على الوجهين، حيث يصحُّ عنده أنَّ الرَّاوي سمعه من شيخٍ حدَّثه به عن آخر، ثمَّ لقي آخر فحدَّثه به، فكان يرويه على الوجهين، ومنها: أنَّه ربَّما أورد حديثًا عنعنه راويه، فيورده من طريقٍ أخرى، مصرِّحًا فيها بالسَّماع، على ما عُرِفَ من طريقه في اشتراط ثبوت اللِّقاء من المعنعن.

وأمَّا تقطيعه للحديث في الأبواب تارةً، واقتصاره منه على بعضه أخرى؛ فلأنَّه إن كان المتن قصيرًا أو مرتبطًا بعضه ببعض، وقد اشتمل على حكمين فصاعدًا فإنِّه يعيده بحسب ذلك مراعيًا عدم إخلائه من فائدةٍ حديثيَّةٍ، وهي إيراده له عن شيخٍ سوى الشَّيخ الذي أخرجه عنه قبل ذلك، فيُستفَاد بذلك كثرة الطُّرق لذلك الحديث، وربَّما ضاق عليه مَخْرَج الحديث حيث لا يكون له إِلَّا طريقٌ واحدٌ، فيتصرَّف حينئذٍ فيه، فيورده في موضعٍ موصولًا، وفي آخرَ معلَّقًا، وتارةً تامًّا، وأخرى مقتصرًا على طرفه الذي يحتاج إليه في ذلك الباب، فإن كان المتن مشتملًا على جمل متعدِّدةٍ لا تَعَلُّقَ لإحداها بالأخرى فإنه يخرِّج كلَّ جملةٍ منها في بابٍ مستقلٍّ فرارًا من التَّطويل، وربَّما نَشِطَ فساقه بتمامه. وقد ذُكر أنَّه وقع في بعض نسخ البخاريِّ في أثناء «الحجِّ» بعد «باب قصر الخطبة بعرفة»، «باب التَّعجيل إلى الموقف»، قال أبو عبد الله: يُزاد في هذا الباب حديث مالكٍ عن ابن شهابٍ، ولكنِّي لا أريد أن أُدخِل فيه مُعادًا، وهذا كما قال في «مقدِّمة الفتح»: يقتضي أنَّه لا يتعمَّد أن يخرِّج في كتابه حديثًا مُعادًا بجميع إسناده ومتنه، وإن كان قد وقع له من ذلك شيءٌ فعن غير قصدٍ وهو قليلٌ جدًّا. انتهى.

قلت: وقد رأيت ورقةً بخطِّ الحافظ ابن حجرٍ تعليقًا، أحضرها إليَّ صاحبنا الشَّيخ العلَّامة المحدِّث البدر المشهديُّ، نصُّها: نبذةٌ من الأحاديث التي ذكرها البخاريُّ في موضعين سندًا ومتنًا:

حديثُ عبد الله بن مغفَّلٍ: «رمى إنسانٌ بجرابٍ فيه شحمٌ»

مَن كَرِهَ إطلاقَ هذا اللفظِ.

قوله: (بِأَثَرٍ) ظاهر عبارة ابن حجر: (بأمر) بالميم؛ فلعلَّ ما هنا تحريفٌ.

قوله: (مِنْ ذَلِكَ … ) إلى آخره، ومنه قوله: (باب: اثنان فما فوقهما جماعة) فهذا حديثٌ يُروى عن أبي موسى الأشعري، وليس على شرط البخاري، وأورد فيه: «فأذِّنا وأقيما وليؤمكما أحدكما».

قوله: (مِنْ أَسْتَارِ) (١)؛ أي: مستورُ أستارٍ، وفيه مَكْنِيَّةٍ لا تخفاكَ.

قوله: (فِيْ جَوَابِ المُتَعَنِّتِ) اسم كتابٍ، لابن طاهرٍ المذكور.

قوله: (بِإِسْنَادٍ آخَرَ)؛ أي: مصحوبًا بإسنادٍ آخر غير الإسناد الذي ذكرهُ له في البابِ الأول.

قوله: (فِيْ حَدِّ الغَرَابَةِ) كذا في نسختنا، والذي في «المقدمة الفتحية»: (عن حد) بلفظ (عن)، وهو المُتعين إذْ متى روى الحديثَ راوٍ آخرَ فقد خرج عن الغرابة، فرُبَّمَا ذكرَ أحد أنَّه غريب لعدم اطِّلاعِه فيوردهُ البخاري عن صحابي آخر، ردًّا على من زعمَ غرابَتَهُ.

قوله: (ثُمَّ لَقِيَ آخَرَ) كذا في نُسختنا وعبارةُ ابن حجر: (ثم لقي الآخر) بالتعريف، وهي ظاهرة.

قوله: (وَأَمَّا تَقْطِيْعُهُ لِلْحَدِيْثِ … ) إلى آخره، قال في «الملخص»: اختلفَ العلماءُ في اختصار الحديث الواحد ورواية بعضه دون بعض، فمنهم من منعَ بناءً على القول بالمنع من النقل بالمعنى، ومنهم مَن منع مع تجويزِ النقلِ بالمعنى إذا لم يكن قد رواه على التمام مرة أخرى، ولم يعلم أن غيره قد رواه تامًّا، ومنهم مَن جَوَّزَ ذلكَ وأطلقَ، والصحيحُ أن يُقالَ: إن كانَ ما تركه متميزًا عَمَّا نقلَهُ، غير متعلقٍ به جازَ؛ لأنَّهما والحالةُ هذه يصيران بمنزلة خبرين منفصلين لا تعلُّقَ لأحدهما بالآخر، وأما تقطيع المصنف الحديث الواحد وتفريقه في الأبواب فهو إلى الجوازِ أقربُ، ولا يخلو من كراهةٍ. انتهى.

قوله: (رُمِيَ إِنْسَانٌ بِجِرابٍ) ببناء (رَمَىَ) للفاعل ورفع (إنسان) على الفاعلية، (وَالجِرَابُ) بكسر الجيم، قال في «المصباح»: ولا يُقال (جَرَاب) بالفتح، قاله ابن السِّكِّيْتِ وغيره، وجمعُهُ: جُرُبٌ ككتاب، وكُتُبٌ، وسُمِعَ أَجْرِبَةٌ


(١) تعليق الشاملة: هكذا في الشرح. والذي في المتن «أسرار» كما ترى.

<<  <   >  >>