والثَّاني وهو ما لا يوجد فيه إلَّا معلَّقًا: فإمَّا أن يذكره بصيغة الجزم فيُستفاد منه الصِّحَّة عن المضاف إلى من علَّق عنه وجوبًا، لكن يبقى النظر فيمن أبرز من رجال ذلك الحديث؛ فمنه ما يلحق بشرطه، ومنه ما لا يلحق.
فأمَّا الأوَّل: فالسَّبب في كونه لم يُوصِل إسناده؛ لكونه أخرج ما يقوم مقامه، فاستغنى عن إيراده مستوفيًا ولم يهمله، بل أورده معلَّقًا اختصارًا، أو لكونه لم يحصل عنده مسموعًا، أو سمعه وشكَّ في سماعه له من شيخه، أو سمعه مذاكرةً فلم يَسُقْهُ مَسَاق الأصل، وغالب هذا فيما أورده عن مشايخه، فمن ذلك: أنَّه قال في «كتاب الوكالة»: قال عثمان بن الهيثم: حدَّثنا عوفٌ حدَّثنا محمَّد بن سيرين عن أبي هريرة ﵁ قال: «وكَّلني رسول الله ﷺ بزكاة رمضان … » الحديث بطوله [خ¦٢٣١١]، وأورده في مواضع أُخَر؛ منها: في «فضائل القرآن» [خ¦٥٠١٠] وفي «ذكر إبليس» [خ¦٣٢٧٥]، ولم يقل في موضعٍ منها: حدَّثنا عثمان، فالظَّاهر أنَّه لم يسمعه منه، وقد استعمل البخاريُّ هذه الصِّيغة فيما لم يسمعه من مشايخه في عدَّة أحاديث، فيوردها عنهم بصيغة: «قال فلانٌ»، ثمَّ يوردها في موضعٍ آخرَ بواسطةٍ بينه وبينهم، ويأتي لذلك أمثلةٌ كثيرةٌ في مواضعها. فقال في «التَّاريخ»: قال إبراهيم بن موسى: حدَّثنا هشام بن يوسف … ، فذكر حديثًا، ثمَّ قال: حدَّثوني بهذا عن إبراهيم، ولكن ليس ذلك مطَّردًا في كل ما أورده بهذه الصِّيغة، لكن مع هذا الاحتمال لا يَجْمُل حمل جميع ما أورده بهذه الصِّيغة على أنَّه سمع ذلك من شيوخه، ولا يلزم من ذلك أن يكون مدلِّسًا عنهم، فقد صرَّح الخطيب وغيره بأنَّ لفظ «قال» لا يُحمَل على السَّماع إلَّا ممَّن عُرِفَ من عادته أنَّه لا يطلق ذلك إلَّا فيما سمع، فاقتضى ذلك أنَّ من لم يُعرَف ذلك من عادته كان الأمر فيه على الاحتمال.
وأمَّا ما لا يلتحق بشرطه: فقد يكون صحيحًا على شرط غيره؛ كقوله في «الطَّهارة»: وقالت عائشة: «كان النَّبيُّ ﷺ يذكر الله على كلِّ أحيانه» [خ¦٦/ ٧ - ٥١٠] فإنَّه حديثٌ صحيحٌ على شرط مسلمٍ، أخرجه في «صحيحه»، وقد يكون حسنًا صالحًا للحجَّة؛ كقوله فيها: وقال بَهْزُ بن حكيمٍ عن أبيه عن جدِّه: «الله أحقُّ أن يُستَحيا منه من النَّاس» [خ¦٥/ ٢٠ - ٤٦٩]، فإنَّه حديثٌ حسنٌ مشهورٌ عن بَهْزٍ، أخرجه أصحاب السُّنن، وقد يكون ضعيفًا، لا من جهة قدحٍ في رجاله، بل من جهة انقطاعٍ يسيرٍ في إسناده؛ كقوله في «كتاب الزَّكاة»: وقال طاوسٌ: قال معاذ بن جبلٍ لأهل اليمن: «ائتوني بعَرَضٍ ثيابٍ خَمِيْصٍ، أو لَبِيْسٍ في الصَّدقة مكان الشَّعير والذُّرة، أهونُ عليكم وخيرٌ لأصحاب محمَّدٍ ﷺ» [خ¦٢٤/ ٣٣ - ٢٢٧٩]، فإنَّ إسناده إلى طاوسٍ صحيحٌ، إلَّا أنَّ طاوسًا لم يسمع من معاذ.
وأمَّا ما يذكره بصيغة التَّمريض؛ فلا يُستَفَاد منه الصِّحَّة عن المضاف إليه، لكن فيه ما هو صحيحٌ، وفيه ما ليس بصحيحٍ، فالأوَّل: لم يوجد فيه ما هو على شرطه إلَّا في مواضعَ يسيرةٍ جدًّا، ولا يذكرها إلَّا حيث يذكر ذلك الحديث المعلَّق بالمعنى ولم يجزم بذلك؛ كقوله في «الطِّبِّ»: ويذكر عن النَّبيِّ ﷺ في الرُّقَى بفاتحة الكتاب [خ¦٥٧٣٦]، فإنَّه أسنده في موضعٍ آخرَ من طريق عبيد الله بن الأخنس عن ابن أبي مُليكة عن ابن عبَّاسٍ: «أنَّ نفرًا من أصحاب النَّبيِّ ﷺ مرُّوا بحيٍّ فيه لديغٌ … » [خ¦٥٧٣٧]، فذكر الحديث في رقيتهم للرَّجل بفاتحة الكتاب، وفيه قوله ﷺ لمَّا أخبروه بذلك: «إنَّ أحقَّ ما أخذتم عليه أجرًا كتاب الله»، فهذا لمَّا أورده بالمعنى؛ لم يجزم به؛ إذ ليس في الموصول أنَّه ﷺ ذكر الرُّقية بفاتحة الكتاب، إنَّما فيه أنَّه لم ينههم عن فعلهم، فاستُفيد ذلك من تقريره.
وأمَّا ما لم يورده في موضعٍ آخر ممَّا أورده بهذه الصِّيغة:
فمنه: ما هو صحيحٌ إلَّا أنَّه ليس على شرطه؛ كقوله في «الصَّلاة»: ويذكر عن عبد الله بن السَّائب قال: «قرأ النَّبيُّ ﷺ (المؤمنون) في صلاة الصُّبح، حتَّى إذا جاء ذكر موسى وهارون أو ذكر عيسى؛ أخذته سَعْلةٌ فركع» [خ¦٧٧٥]، وهو حديثٌ صحيحٌ على شرط مسلمٍ أخرجه في «صحيحه».
ومنه: ما هو حسنٌ، كقوله في «البيوع»: ويُذكر عن عثمان بن عفَّان ﵁ أنَّ النَّبيَّ ﷺ قال: «إذا بِعْتَ فاكْتَلْ» [خ¦٢١٢٦]، وهذا الحديث قد رواه الدَّارقطنيُّ من طريق عبيد الله بن المغيرة، وهو صدوقٌ عن منقذ مولى عثمان، وقد وُثِّقَ عن عثمان، وتابعه عليه سعيد بن المسيَّب، ومن طريقه أخرجه أحمد في «المُسنَد»، إلَّا أنَّ في إسناده ابن لهيعة، ورواه ابن أبي شيبة في «مصنَّفه» من حديث عطاء عن عثمان، وفيه انقطاعٌ، فالحديث حسنٌ؛ لما عضده من ذلك.
ومنه: ما هو ضعيفٌ فردٌ، إلَّا أنَّ العمل على موافقته، كقوله في «الوصايا» عن النَّبيِّ ﷺ: «أنَّه قضى بالدَّين قبل الوصيَّة» [خ¦٢٧٥٠]، وقد رواه التِّرمذيُّ موصولًا من حديث أبي إسحاق السَّبيعيِّ عن الحارث الأعور عن عليٍّ، والحارث ضعيفٌ، وقد استغربه التِّرمذيُّ، ثمَّ حكى إجماع أهل المدينة على القول به.
ومنه: ما هو ضعيفٌ فردٌ لا جابرَ له، وهو في «البخاريِّ» قليلٌ جدًّا، وحيث يقع ذلك فيه يتعقَّبه المصنِّف بالتَّضعيف بخلاف ما قبله.
ومن أمثلته: قوله في «كتاب الصَّلاة»: ويذكر عن أبي هريرة رفعه: «لا يتطوَّع الإمام
«مقدمة الفتح».
قوله: (فَإِمَّا أَنْ يَذْكُرَهُ … ) إلى آخره، أصلُ عبارة «مقدمة الفتح»، والثاني هو: ما لا يوجد فيه إلَّا مُعَلَّقًا فإنَّهُ على صورتين: إمَّا أن يُورده بصيغةِ الجزمِ وإمَّا أن يُورده بصيغة التمريض، فالصيغة الأولى يُستفادُ منها الصحةُ إلى مَن عَلَّقَ عنهُ، لكن يَبْقَى النَّظَرَ فيمنْ أبرزَ من رجال ذلك الحديث، فمنه ما يلتحق بشرطه ومنه ما لا يلتحق، أما ما يلتحقُ فالسبب في كونه لم يوصل إسناده إما لكونه أخرج ما يقوم مقامه فاستغنى عن إيراد هذا مستوفَى السياق ولم يهمله، بل أورده بصيغة التعليق طلبًا للاختصار، وإمَّا لكونه لم يحصل عنده مسموعًا، أو سمعه وشكَّ في سماعه له من شيخه، أو سمعه من شيخه مذاكرةً، فما رأى أنَّه يسوقه مساقَ الأصل وغالب هذا … إلى آخر ما ذكره الشارح.
قوله: (بِعَرَضٍ) بفتح العين المهملة والراء منونًا، و (ثِيَابٍ) بالجرِّ بدل أو عطف بيان له، وجوَّزَ بعضهم الإضافة، و (خَمِيْص) بفتح الخاء المعجمة آخره صاد مهملة: كساء له عَلَمان، و (لَبِيْس) بفتح اللام وكسر الموحدة، آخره سين مهملة فعيل بمعنى مفعول؛ أي: ملبوس، وقوله: (أَهْوَنُ) بالرفع خبرُ مبتدأ محذوف؛ أي: ذلك أهون … إلى آخره.
قوله: (أَخَذَتْهُ سَعْلَةٌ) ضبطه النووي والقاضي عياض بفتح السين، وفي «القاموس»: سَعَلَ كنَصَرَ سُعْالًا وسُعْلَةً بضمهما، وهي حركةٌ تدفعُ بها الطبيعة أذى الرئة والأعضاء التي تتصل بها.