للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الأمراض النفسانية ورفع المهلكات، وأحالوا الأحكام الشرعية إلى تلاميذهم وأصحابهم. فتوجهوا إلى إقامة تلك الأحكام، كما توجه الأئمة إلى العبادات والرياضات وتصفية القلوب وتعيين الأذكار وتعليم الأدعية وتهذيب الأخلاق، وإرشادهم إلى المعارف الإلهية بأخذها من كلام الله تعالى وكلام رسوله - صلى الله عليه وسلم -، ولهذا نقل عنهم دقائق علم الطريقة وغوامض أسرار الحقيقة، ويشير حديث الثقلين إلى ذلك، لأن كتاب الله تعالى يكفى في تعليم ظاهر الشريعة، ولا حاجة لمن له معرفة بالأصول والفقه في فهم الأحكام الشرعية منه إلى إرشاد إمام، وإنما الحاجة إليه لتعليم الأسرار الإلهية، ولهذا لم نر أحدا منهم صنف كتابا في أصول أو فروع باتفاق الفريقين، بل انتشرت روايات المسائل والأحكام عنهم في أصحابهم وصارت قواعد الاستنباط مهجورة فلابد لها من يجمعها ويحرزها ويمهد قواعد الاجتهاد ومراسمه.

والشيعة وإن كانوا يدعون ظاهرا أتباع الأئمة ولكنهم في الحقيقة يقلدون في المسائل غير المنصوصة عن الأئمة علماءهم ومجتهديهم كابن عقيل (١) والسيد المرتضى والشيخ (٢) والشهيد (٣) ويأخذون بأقوالهم ولو كانت مخالفة للروايات الصحيحة عن الأئمة كما سيجئ إن شاء الله تعالى من ذلك في المسائل الفقهية.

فإذا جاز عندهم تقليد مجتهديهم فيما يخالف الروايات الثابتة عن الأئمة فأي محذور يلزم أهل السنة في أخذهم بأقوال المذاهب الأربعة والاقتداء بهم مع موافقتهم لما عليه الأئمة من الأصول والقواعد، ولا محذور في المخالفة في بعض الفروع، كما أن محمد بن الحسن (٤) وأبا يوسف (٥) قد خالفا مقتداهما أبا حنيفة في كثير من المسائل، ومع ذلك فهما من أتباعه، وما قاله ابن الأثير الجزري (٦) صاحب (جامع الأصول) أن الإمام على الرضا كان مجددا لمذهب الإمامية في القرن الثالث فمراده أن الإمامية يوصلون إليه مذهبهم المدون في ذلك القرن ويعلمونه مأخذ مذهبهم، كما ان ابن مسعود من الصحابة وعلقمة من التابعين كانا بانيين لمذهب أبي حنيفة، وأن نافعا والزهري من التابعين وابن عمر من الصحابة كانوا بانين لمذهب مالك، مع أن ما ذكره ابن الأثير بناه على زعم الإمامية ومعتقدهم بناء على ما صرح به من أنه


(١) هو أبو محمد الحسن بن علي بن عيسى بن أبي عقيل العماني الحذاء، قال عنه النجاشي: «فقيه متكلم ثقة، له كتب في الفقه والكلام»، وقال عنه العاملي: «هو من قدماء الأصحاب، ويعبر عنه وعن ابن الجنيد بالقديمين، وهما من أهل المائة الرابعة». رجال النجاشي: ١/ ١٥٣؛ أعيان الشيعة: ٥/ ١٥٨.
(٢) الشيخ عند الإمامية محمد بن الحسن بن علي، أبو جعفر الطوسي، قال عنه السبكي: «فقيه الشيعة ومصنفهم»، قال ابن المطهر الحلي: «شيخ الإمامية ورئيس الطائفة جليل القدر عظيم المنزلة ثقة عين صدوق عارف بالأخبار والرجال والفقه والأصول والكلام ... قال ابن النجار أحرقت كتبه عدة بمحضر من الناس في رحبة جامع النصر واستتر خوفا على نفسه بسبب ما يظهر عنه من انتقاص السلف» توفي سنة ٤٦٠هـ. رجال النجاشي: ٢/ ٣٣٢؛ الخلاصة: ص ١٤٨؛ لسان الميزان: ٥/ ١٣٥؛ أعيان الشيعة: ٩/ ١٥٩.
(٣) هو أبو عبد الله محمد بن مكي العاملي الجزيني، له مصنفات كثيرة، حبس سنة في قلعة الشام، ثم قتل بالسيف وصلب ثم رجم ثم أحرق في دولة السلطان برقوق، بفتوى من العلماء، بسبب مقالاته الشنيعة التي بثها بين الناس، فشهد عليه جماعة وقتل سنة ٧٨٦هـ، وتسميه الإمامية (الشهيد الأول). أمل الآمل: ١/ ١٨١؛ تنقيح المقال: ٣/ ١٩١؛ معجم المؤلفين: ١٢/ ٤٨.
(٤) أبو عبد الله محمد بن الحسن الشيباني، تلميذ أبي حنيفة، فقيه مشهور، توفى سنة ١٨٩هـ. تاريخ بغداد: ٢/ ١٧٢؛ لسان الميزان: ٥/ ١٢١.
(٥) أبو يوسف يعقوب بن إبراهيم بن حبيب بن حبيش الأنصاري، الإمام المجتهد العلامة قاضي القضاة؛ قال ابن معين: «ما رأيت في أصحاب الرأي أثبت في الحديث ولا أحفظ ولا أصح رواية من أبي يوسف»، توفي سنة ١٨٢هـ. تاريخ بغداد: ١٤/ ٢٤٢؛ سير أعلام النبلاء: ٨/ ٥٣٦.
(٦) أبو السعادات المبارك بن محمد الجزري، محدث ولغوي وأصولي، ولد ونشأ في جزيرة ابن عمر سنة ٥٥٥هـ، وانتقل إلى الموصل، وكان نسابة إخباريا عارفا بالرجال، لا سيما الصحابة، توفي سنة ٦٠٦ هـ. وفيات الأعيان: ٤/ ١٤١؛ السيوطي، طبقات الحفاظ: ٢/ ٤٩٥.