للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

المناقشة: أن ذلك كان بإذن المعير، وهي أم أنس - رضي الله عنها - قطعًا بدلالة الحال.

الجواب: لو ثبت عندنا نص ينافي هذا الحكم لساغ لنا أن نحمل الحديث على هذا المحمل، لكن ما ذكره المانعون من حججٍ إنما هي عمومات لا تقاوم هذا الفعل المختص بمحل النزاع والدالِّ على الجواز دون ذكر للإذن أو النهي من المعير.

الرد: أن القرائن معتبرة في المعاملات، وهنا قامت قرينة إذن بالإعارة، فالصحابة -رضوان الله عليهم- كانوا يخيِّرون النبي - صلى الله عليه وسلم - في أموالهم ابتداءً فكيف يترددون في الإذن بإعارته المعار؟ وعليه فمتى قامت قرينة تدل على خلاف الأصل الذي دلت عليه النصوص السابقة عُمِل بها، كمن أعدَّ مالًا للإعارة وعُلِم من حاله الإذن لكل أحد، ولو جاءه المستعير الثاني ابتداءً لأعاره.

الدليل الثاني: أن العارية تمليك للمنفعة فيجوز أن يعيرها قياسًا على إجارة المستأجر.

المناقشة:

١. الإجارة مِلكٌ للمنفعة من كل وجه، أما العارية فملك للاستيفاء على وجه ما أُذن له، فأشبه مَن أبيح له أكل الطعام (١).

٢. عدم التسليم بأن العارية تمليك منافع بل هي إباحة.

أدلة القول الثالث:

الدليل الأول: قال الله - سبحانه وتعالى -: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} النساء: (٥٨)، والعارية أمانة، وفي إعارتها تفريط ومنافاة لأدائها لأهلها؛ لأنه أداها لغير أهلها.

الدليل الثاني: قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس منه» (٢)، والمال يشمل الأعيان والمنافع، ولم تطب نفس المالك هنا بإعارة ماله.

الدليل الثالث: أن الناس يتفاوتون في الاستعمال، والمعير لم يرض باستعمال غير المستعير للعارية، كما أنهم يتفاوتون في الذمم.

الدليل الرابع: أنه يجوز -بإجماع- أن يعير من غير أجل (٣)، وعليه فيجوز أن يرجع في أي وقت، فدلَّ على أن المستعير لا يملك أن يعير؛ لأنه سيفوت على المعير أخذ حقه متى شاء.

الدليل الخامس: قياس العكس على الإجارة، فالإجارة تمليك للمنفعة اشترط فيها الأجل فجاز للمستأجر أن يؤجر، والعارية لم يشترط فيها الأجل، فليست تمليكًا للمنفعة، وعليه فليس للمستعير أن يعير.


(١) المغني ٧/ ٣٤٧ - ٣٤٨.
(٢) سبق تخريجه ص ١٧٦.
(٣) بدائع الصنائع ٦/ ٣٣٩.

<<  <   >  >>