يا مَن إذا جاريْتُه في مَسْلَكٍ ... ألفيْتُه قد سَدَّ طُرْق مَنافذِي
أهْوِنْ بمُضْناك الذي حيَّرْتَه ... هذا مقام المستجيرِ العائذِ
ثم طلب من الأمير المنجكي تضمينه، فقال:
بِسوَى حِماكُم لا تَراني مُقْلةٌ ... يا مَن لهم وُدِّى المؤكد لائذِي
فإذا وقفتُ ببابكم مُتذلِّلاً ... هذا مقام المستجير العائذِ
واتصل ذلك بالأديب الباهر الطريقة، عبد الرحمن الموصلي، فقال:
عاهدْتُه أن لا يميلَ وقد رأى ... نَبْذَ العهودِ فدَيْتهُ من نابِذِ
رَدَّ الصباحَ لناظِرَيَّ بهجْرِه ... ليْلاً وسدَّد بالصُّدود منافذِي
ناديْتُه واليأسُ أمْسى ضاحكاً ... وأناملُ الآمالِ تحت نواجذِي
رِفْقاً بقلبٍ لا يميلُ لغيركمْ ... هذا مقام المستجير العائذِ
قلت: والأبيات المتقدمة ذكرها ابن خلكان.
وقال: إن المأمون استعاد الصوت من نعم ثلاث مرات، وكان بحضرة اليزيدي، فقال: يا يزيدي، أيكون شيءٌ أحسن مما نحن فيه؟.
قلت: نعم، يا أمير المؤمنين.
فقال: وما هو؟ قلت: الشكر لمن خولك هذا الإنعام العظيم الجليل.
فقال: أحسنت، وصدقت.
ووصلني، وأمر بمائة ألف درهم يتصدق بها، فكأني أنظر إلى البدر وقد أخرجت، والمال يفرق.
[أخوه السيد حسين]
إذا كان ذاك الرضي فهذا المرتضى، وكلٌ منهما الحسام المجرد والسيف المنتضى.
فهما في السيادة ربيبان، يتضاءل لديهما الأقعسان.
اشتركا في البراعة اشتراك الشمول، وفاحا فوحة الزهر وهبا هبوب الشمول.
فكأن يد القادر الفتاح، شقتهما من شقي التفاح.
ينظر الأدب منهما عن مقلتين، ويتردد الأفاضل بينهما تردد النسمات بين روضتين.
وهذا وإن عاجله الحمام، فاستسر قبل التمام.
إلا أنه أهتصر الأمل لدنا، وتبوأ من قرارة العيش عدنا.
وقد ألان له الدهر معطفاً، وأجناه ما شاء من الأماني مقطفا.
وناله قبيل موته حالٌ سنية الخلال، وسيادةٌ وريفة الظلال.
فلم يقم داعي الهنا بإقباله حتى قام ناعى الأمنية، ولا انتقد دينار عمره على محك الانتقاد حتى عولج بصرف المنية.
فروح الله بروحه في الجنان، وعامله بمحض الفضل والامتنان.
وقد أثبت من شعره ما استوفى أقسام النضارة، واستكمل فصاحة البداوة وهو من لب الحضارة.
فمنه قوله من قصيدته، مستهلها:
لك اللهُ هل بَرْقُ الرُّبوع يلوحُ ... وهل بان من ليلِ البِعادِ نُزوحُ
وكم يا ترى يْسطُو عليَّ بأدْهَمٍ ... وأشْهبُ طِرْفِ الصُّبح عنه جَمُوحُ
أُراقِبُ نَجْماً ضلَّ مَسْلَك غَربِه ... وطَرْفِىَ هامٍ والفؤادُ جريحُ
يبيتُ يناجيني الحمَام بسجْعِه ... ويروى حديثَ السُّقْمِ وهْوَ صحيحُ
أطارحُه وجْدِى ويشْكو من الجَوىَ ... وكلُّ مَشُوقٍ بالغرام يبوحُ
يُنوح ولا يدْرِي البِعادَ وفَرْخُه ... لديْه قريبٌ والزمانُ سَمُوحُ
على غُصْنِه المَيَّادِ أصبح شادياً ... ونَشْر الصَّبا يَغْدو له ويروحُ
بِرَوْض بكتْه الغادياتُ فأضحكتْ ... ثُغورَ أقاحٍ بالعبِير تفوحُ
أَقول له والوجدُ يمطِر مقْلتِي ... وقلبيَ في نارِ الغرام طريحُ
ألا يا حَمامَ الأيْك إلْفُك حاضرٌ ... وغصنُك مَيَّادٌ ففِيم تنوحُ
ألا يا حمامَ الأيْك تعدُوكَ حالُ مَن ... بأحْشاه من حرِّ البِعادِ قُروحُ
مُغادِرُ أفْراخِي صغاراً وليس لي ... جَناحٌ ولم يهبُبْ بفُلْكِيَ رِيحُ
فأيْن من النَّائِي عن الإلْفِ حاضرٌ ... وأين من الباكي النَّحُوبِ صَدوحُ
فهل يا ترى من مُنْقذٍ أو مساعدٍ ... يخلِّص مِن أيْدي النَّوى ويُريحُ
وقوله، من أخرى:
مَعاذَ الهوى أن الصَّرِيعَ به يصْحُو ... ليعقِلَ ما يُمْلي على سَمْعِه النُّصْحُ
وكيف تُرجَّى منه يوماً إفاقةٌ ... وزَنْدُ الهوى في عقْله دَأْبُهُ القَدْحُ