للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فيقال: إنها مرت على قبره، وهي راكبة على جمل، ومعها زوجها، فقال لها زوجها: هذا قبر الكذاب، سلمي عليه، حتى ننظر وعده.

فقالت له: خلِّه، فقد مات إلى رحمة الله تعالى.

فقال لها: لا بد من ذلك.

فسلمت عليه، فطار من جانب قبره طائرٌ، فهاج جملها، فوقعت اندقت عنقها، فدفنوها إلى جانبه.

أخرجه صاحب " الأغاني " عن المدائني.

وله في النسيب:

آهِ مَن لي بظَبْيةٍ فَتَّانَهْ ... وهْيَ تلْهو ومُهجتِي وَلْهانَهْ

ذاتُ ثَغْرٍ كأنه الُّلؤْلؤُ الرَّ ... طْبُ حكى كفَّها وحاكى بَنانَهْ

قولهم: " في اللؤلؤ الرطب " كناية عما فيه من ماء الرونق والبها، ونعمة البشرة وتمام النقا؛ لأن الرطوبة فصل مقدم لذات الماء، فهي تنوب عنه في الذكر، وليس يعني بالرطوبة فيه المعنى الذي هو نقيض اليبوسة.

قاله أبو الريحان في كتابه " الجماهر ".

وقوله: " حكى كفها وحاكى بنانه ".

المراد بمحاكاة كفها في تناسب أصابعه واستوائها، وبمحاكاته لبنانه في حمرتها؛ فيكون قصد تشبيهين: تشبيه أسنانها، وتشبيه شفتيها.

هذا ما يظهر من البيت.

هي في القَدِّ غصنُ بَانٍ ولكن ... مَن رأى النَّهْد قال ذي رُمَّانَهْ

يا عجيباً منها تظُن سُلُوّاً ... من فؤادي وتشْتكي سُلْوانَهْ

يا عجيباً أني أُرِيد رِضاها ... وهْيَ في حالةِ الرضا غَضْبانَهْ

لستُ أخْشَى بحبِّها من عَذُولٍ ... فدَعُوه فينا يُطِيل لسانَهْ

حاصلُ الأمْرِ أن يقول فلان ... طار صِيتاً بحبِّه لفُلانَهْ

أنا صَبٌّ بحبِّها مُستهامٌ ... ملَك الحبُّ سِرَّه وعَيانَهْ

لستُ أنْسَى لمَّا أتتْ ورَقِيبِي ... عينُه من يد الكرَى مَلآنَهْ

تتخطَّى العيونَ شرقاً وغربا ... ضمنَ عينٍ بشَرْقها غَربَانَهْ

ضِمْنَ ثوبٍ من التقى مُستعارٍ ... بعفافٍ قد طَيَّبتْ أرْدانَهْ

وقضيْنا الوِصَال رَشْفا وضَمّاً ... بقلوبٍ هَيْمانةٍ حَرَّانَهْ

وأراد الجُموحَ طِرْفُ التَّصابِي ... فلويْنا عما أراد عِنانَهْ

وملكْنا نفوسَنا برِضاها ... وزجَرْنا بعِفَّةٍ شيطانَهْ

فدعِ العاذلين ينْقُلْنَ عني ... آه مَن لي بظَبْيةٍ فَتَّانَهْ

وكان ليلة ألف مجلس راح، في موسم أفراح.

يحسد اتساقه الدر، وتتمنى إشراقه الزهر.

فلما محى عنبر الظلام كافور الصباح، نادى مؤذن القصف: حيَّ على الاصطباح.

وردت عليه رقعة من أحد أحبائه، الواقفين على سر حقيقة أنبائه.

ومكتوب فيها:

على الباب المعظَّم عَبْدُ رِقٍّ ... بأنواعِ الحِبا منكم يفُوزُ

يجُوز البابَ عن إذنٍ كريمٍ ... وإلاَّ فهْو شيءٌ لا يجوزُ

فلما قرأها تهلل كأنما منح بعمر معاد، أو حصل من حبيب مماطل على ميعاد.

ثم كتب إليه:

يحيط بعلْمكم أنَّا نَشاوَى ... وقد جُلِيتْ لنا بِكْرٌ عجوزُ

فإن جوَّزْتمُ ما نحن فيه ... وإلاَّ فهْو شيءٌ لا يجوزُ

وحكى بعض ندمائه، قال: دخلت عليه في مرض موته، فصادفت بريداً جاء بتقليد حماة، بعد عزل وقع له، فالتفت، وقال بصوت ضعيف: " قضي الأمر الذي فيه تستفتيان "، وحان من الحين المكتتب ما حان.

فدعوت له بامتداد الأجل، وسليته عن ذلك الاضطراب والوجل.

فرأيته قد تجمع، وبكى ملء جفونه وتوجع.

وقال: والله ما أبكى إلا من يسوءه الآن بعدي، وهو يتمنى الأوداء بعدي.

ثم أنشد:

لا يحسَب الإنسانُ بعد ذَهابِه ... مُكْثَ الأسَى في عِشْرةٍ وقَرِينِ

في الْحالِ يعْتاضُون عنه بغيرِه ... ويعود ربُّ الحزنِ غيرَ حزينِ

العَنْدلِيبُ الوردُ كان أمامَه ... لمَّا مضى غنَّى على النِّسْرِينِ

ثم فارقته، ففي تلك الليلة تولاه مولاه، وفارق دنياه.

فبكى عليه السيف والقلم، وانفجع فيه العِلْم والعَلَم.

الباب الثاني في نوادر الأدباء

بحلب الشهباء

<<  <  ج: ص:  >  >>