منيل الأماني بلا منة الحقب، متهلل يضع الهناء موضع النقب.
وهو مقصد يتزود ذكره المسافر، ويعمل إلى لقائه الخف والحافر.
فحل عنده حلول النوم من الأحداق والمدام من الأقداح، وبقي عنده يتحفه بدر الأثنية ويجلب إليه غرر الأمداح.
حتى دهمتهم داهمة ابن جانبولاذ، وتضعضع منهم ركنٌ يحتمى به في الدهر ويلاذ.
عندها أقلع إلى أدلب فكأنما دعاه إليه الأجل، ومضى إلى الله تعالى على وجه السرعة والعجل.
وقد جئت من شعره بما هو أحلى في الأفواه من الشهد، وأشهى إلى العيون من النوم بعد السهد.
فمن ذلك قوله، من قصيدة:
أمُعذِّبي رِفْقاً بصَبٍّ مُغْرَمِ ... أضحى كمثل ابن السبيلِ الغارمِ
فلقد جعلت الدمعَ وَقْفاً جارياً ... يحْتار منه ذو البكاء الدائمِ
فاعجَب لدمعِي سائلاً متصدِّقاً ... واعجَبْ لواقِفة المُقيمِ الهائمِ
هل أنت راحمُ ما ترى يا مُتلفِي ... من حالتي أم أنت لستَ براحمِ
فلقد جرى ما قد كفى ولقد كفى ... ما قد جرى من مَدْمعِي المتلاطمِ
يا رُبَّ ليلٍ طائلٍ ما تحته ... من طائلٍ غير العَناءِ اللازمِ
مَدَّتْ به طُنْبُ الظلامِ فلا ترى ... إلاَّ نجوماً في سوادٍ فاحمِ
فكأنها عطْشَى فتشرب ما بدَا ... من فجْره شُرْبَ النَّزِيف الحائمِ
لو لم يكنْ فَرْعُ الحبيب مُشبَّها ... بسَوادِه لغدَوْتُ أبْلَغ شاتمِ
قاسيتُ فيه كلَّ هَوْلٍ هائلٍ ... وركبتُ منه كل مَتْنٍ قاتِمِ
حتى بدَا ضوءُ الصباح كأنه ... إشْراقُ وجهِ محمَّدِ بن القاسمِ
وقوله، وهو من بدائعه:
كأنَّ الدجَى ظَرْفٌ على الصبح مُوكَأٌ ... ولكن لطُول الامْتلا والبِلَى انْفَلقْ
فسال فغطَّى أنْجُماً ما تعلَّمتْ ... لقصْر المدى سَبْحاً فأدركها الغَرَقْ
قلت: لقد أجاد، وإن كان تناوله من قول ابن تميم:
انظُر إلى الصبح البديع وقد بدا ... يغْشَى الظلامَ بمائِه المتدفِّقِ
غرقت به زُهْرُ النجوم وإنما ... سلِم الهلالُ لأنه كالزورقِ
والضد أقرب خطوراً بالبال عند ذكر ضده.
تذكرت هنا قول أبي علي البصير، وفي الثاني نظر:
وجُفونُ عينِك قد نَثَرْنَ من البكا ... فوق المَدامعِ لُؤْلُؤاً وعَقِيقا
لو لم يكُن إنسانُ عينِك سابِحاً ... في بحرِ مُقْلتِه لمَات غريقَا
ولابن العطار في غرق الليل:
صبحٌ يلُوح وشخصُ الليل مُنْغمِسٌ ... فيه كما غَرِق الزِّنْجِيُّ في نَهَرِ
ومن أهاجي المترجم قوله في قاض بحماة:
من شَرِّ بيتٍ شرُّ قاضٍ أتى ... حماته يا قُبْحَ ما استحسنَتْ
أبُوه مُحْتالٌ دَنِيٌّ وكم ... في رأْسِه من دَوْحةٍ أغْصَنتْ
وأُمُّه مريم لكنها ... وعيشِكم ليس التي أحْصَنتْ
الأمير حسن بن محمد
[المعروف بابن الأعوج]
حاكم حماة صانها الله وحماها، ولا زالت حوامل المزن تحط أثقالها بحماها.
أميرٌ وابن أمير، وروض نضير، أنشأه ماءٌ نمير.
تلقى راية المجد بيمين عرابة، وما أتى أمراً قط وفيه غرابة.
وجَلا الإمارةَ في رَفيفِ نضارِة ... جلَتِ الدجى في حُلَّةِ الأنْوارِ
في حيثُ وَشَّح لبَّه بقِلادةٍ ... منها وحلَّى مِعْصَما بسِوارِ
فهو فارس ميدان اليراع والصفاح، وصاحب الرماح الخطية والأقلام الفصاح.
فالسيف من جملة خدمه، والقلم يقوم في خدمته على رأسه عوض قدمه.
يكتب فيجعل للأقلام حجة قاطعة على السيوف، وينتضي سيفه فيقول القلم مالي بارقة في ميدان هذا الحتوف.
وإن جرى أدهم قلمه في حومة البراعة فهو سباق الغايات، وإن غردت حمائم نفثاته على غصون أقلامه قيل جاء من الزمر ما غطى على النايات.
وهو جواد مبسوط الكف، ما أعرض يوماً عن مكرمة ولا كف.
فجوده يغني عن القطر إذا شم الغمام، ونعمه هي الأطواق والناس الحمام.