للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وكيف يشتم الإنسان بلدةً إذا جلب إليها الماء يكتسب حرارة، وإذا استجلب إليها العذب السائغ ينقلب إلى عفوصة ومرارة.

وهي كما قال أبو الحسن الباخرزيّ، في مدح محاسن الرّيّ، ولطف هوائها ومائها:

صادفتُ فيها كلَّ شَيْءٍ جائزاً ... أقْصى حدودِ البردِ غيرَ الماءِ

وكيف لا يمدح الماء الحار، وهو الذي يجلب المسارّ، ويدفع المضارّ.

وينفع في الحمّام، للاغتسال والاستحمام، ويحلّل الأورام، وإن شئت فقل يجلب البرسام، والسلام.

شعراء جبل عاملة

حسين بن عبد الصمد الحارثيّ

هو في الإشراق مستمدّ الشمس، وله مزيّة اليوم على الأمس.

نبيه المقدار والمكانة، متحلٍّ بالتصلّف والاستكانة.

ركض في ميدان الطلب مطايا الأشواق، وضرب آباطها بعصا المشارب والأذواق.

حاديه أمله، ودليله عمله، والراحلة عمله.

وهو في الإسآد والإعناق، مهدي تحف القبول لجواهر الأعناق.

حطّ رحله ببلاد فارس، فطابت بها منه مجانٍ ومغارس.

ووجد مشربا عذبا من الشّاه فورد، وقصّرت النّظراء عن مداه فانفرد.

بطبعٍ ألطف من نسيم السّحر، يمسح عن عيون الأكمام ويعانق قدود الشّجر وأدبٍ يجري في ميدانه طلق العنان، ويمضي في معركته ماضي الظّبة والسّنان.

ولم يزل يتردّد من بلدةٍ إلى أخرى، وتتعاقب عليه مراتب لم تجد أحقّ منه ولا أحرى.

حتى اخترمه الأجل، ومضى لما عند الله عزّ وجلّ.

وقد أثبتّ من نظمه ما يزري ائتلافه بلؤلؤ العقود، ومن نثره مايزين نقده النقود.

فمن ذلك قوله:

فاح نَشْرُ الصَّبا وصاح الديكْ ... وانْثنى البانُ يشتكي التحريكْ

قُم بنا نجْتلى مُشَعْشَعةً ... تاه من وجْدِه بها النَّسِّيكْ

لو رآها المجوسُ عاكفةً ... وَحَّدُوها وجانبوا التَّشْريكْ

إن تَسِرْ نحونا تُسَرَّ وإن ... مِتَّ في السيْر دوننا نُحْييكَ

وهو أول من اخترع هذا الوزن والقافية، واقتفى أثره ابنه البهاء، في قوله:

يا نَدِيمِي بمُهجتي أفْديكْ ... قُمْ وهاتِ الكؤُوسَ من هاتِيكْ

ثم تداول الأدباء هذا الوزن والقافية، ولولا خوف الملل لذكرت من ذلك الجملة الكافية.

ومن شعره قوله:

ما شمَمْتُ الوردَ إلا ... زادني شوقاً إليكَ

وإذا ما مال غصنٌ ... خِلتُه يحنُو عليكَ

لستَ تدري مالذي قد ... حلَّ بي من مُقْلَتيْكَ

إن يكنْ جسمي تناءَى ... فالحشَا باقٍ لديْكَ

كلُّ حسنٍ في البرايا ... هو منسوبٌ إليكَ

رُشِق القلبُ بسهمٍ ... قوسُه من حاجبيْكَ

إن ذاتي وذَواتي ... يامُنائي في يديكَ

آهِ لو أُسْقَى لأُشفَى ... خمرةً من شفتيْكَ

ورأى قول الوزير أبي الفضل الدّارِمِيّ:

أنْبت ورداً ناضِراً ناظرِي ... في وجْنتِه كالقمرِ الطالعِ

فلِمْ منعتُمْ شَفتي لَثْمهُ ... والحقُّ أن الزرعَ للزَّراعِ

فكتب:

لأنَّ أهلَ الحبِّ في حَيِّنا ... عبيدُنا في شرعنا الواسعِ

والعبدُ لا مِلْكَ له عندنا ... فزرعُه للسيد المانعِ

وقد أجاب عنه بعض المغاربة بقوله:

سلَّمتُ أن الحكمَ ما قلتمُ ... وهو الذي نُصَّ عن الشارعِ

فكيف تبْغي شَفَةٌ قَطْفَه ... وغيرُها المدعوُّ بالزارعِ

ورده الحافظ أبو عبد الله التنيسي التلمساني:

في ذا الذي قد قلتُمُ مَبْحَثٌ ... إذْ فيه إبهامٌ على السَّامعِ

سلمتُمُ الحكمَ له مطلقاً ... وغيرُ ذا نُصَّ عن الشارعِ

يعني أنه يلزم على قول المحب أن يباح له النظر مطلقاً، والشرع خلافه.

وأجاب بعض أئمتنا الحنفية بقوله:

لأن أهل الحب في حكمنا

البيتين اللذين أجاب بهما المترجم.

وهو جواب حسن.

ولبعض المعاربة، مخاطبا أبا الفضل المذكور:

قل لأبي الفضل الوزير الذي ... باهَى به مَغربنا الشرقُ

غرسْتَ ظلماً وأردت الجَنَى ... وما لعِرْقٍ ظالمٍ حَقُّ

<<  <  ج: ص:  >  >>