مقدّم في العلوم الشرعية، غير متأخر في العلوم الأدبية المرعية.
فهو من الفضل في منتهاه، ومن الأدب في محل سهاه.
وله جودة إتقان، وتمسّك بالهدى وإيقان.
مع زهد يحول بين القلوب ولذّاتها، وتبتّل لا يرغب في العبادة إلا لذاتها.
نقيٌّ مما يصديء مرآة نهاه، فما صبا لظبيٍ ولا اعتلق بمهاة.
يهيم في صلاحٍ وسداد، إذا هامت الشعراء في كلّ واد.
وهو أوحد من ألّف وصنّف، وأعظم من قرّظ وشنّف.
وله أشعار ومنشآت جلا أفقها، وجلّى طرفها وطرقها، وأطلع من تحت غصون الأقلام كالرياض ورقها.
فمن شعره قوله:
لما رأيتُك مقبلاً متبسِّما ... والحسنُ عمّك والبَها والسُّؤدَدُ
والمِسكُ خالُك فاح عطراً نَشْرُه ... والوردُ خدُّك جمرُه يتوقَّدُ
قلت ارْتجالا بيتَ شعرٍ مفرداً ... أنت المرادُ وفي المحاسنِ مُفْرَدُ
ياواحداً في حُسْنِه وجمالِه ... إنِّي وحقِّك في هواك مُوحِّدُ
وقوله:
أيامَن حَلا لي ثغرُه ورحيقُه ... رُوَيْدَك إن القلبَ زاد حريقُهُ
ويامن تجلَّى بالدَّلالِ ومَلَّنِي ... ومِن لَحْظِه سَيْف يلوح بريقُهُ
ويامن حَكاه الغصنُ وهْو وَرِيقُه ... ووردٌ وشُهد وَجْنتاه ورِيقُهُ
تُعلِّق آمالي بذاك وتنْثنِي ... وهل ينْثني عمَّن يحبُّ مَشُوقُهُ
وصيَّرتَ لي ذنباً ولم أكُ مُذنباً ... وحمَّلتني بالهجرِ مالا أُطِيقُهُ
صبرتُ ومُرُّ الصبر فتَّتَ مُهجتي ... وإن كنتَ في شكٍٍّ فسَلْ من يذوقُهُ
وقوله:
مُذ غاب عن عيني وأعرض عامداً ... مَن كنت أهواه تغيَّر حالِي
وأتى العذولُ مُوبِّخاً ومعاتِباً ... مامَن يُقاسِي مثلَ من هو خالِي
ومن أمثالهم في هذا الباب: الراكب لا يعرف حال الماشي.
والشبعان يفتّ للجوعان فتًّا بطيًّا.
من نام لا يشعر بشجو الأرق.
وله:
برُوحِي مَن لي في لِقاه وَلائمُ ... وكم في هواه لي عذولٌ ولائمُ
على وَجْنتيْه ورْدتان وخالُه ... كمسكٍ لطيفِ الوصف والثغرُ باسمُ
ذوائبُه ليلٌ وطلعةُ وجهِه ... نهارٌ تبدَّى والثنايا كمائمُ
بديعُ التثنِّي مرسِلٌ فوق خدِّه ... عِذاراً هوى العُذْرِى لديه مُلازمُ
ومِن عجَبٍ أنِّي حفظتُ وِدادَه ... وذلك عندي في المحبةِ لازمُ
وبيْني وبين الوصل منه تَبايُنٌ ... وبيني وبين الفصْل منه تلازُمُ
وله:
ليت في الدهر لو حظِيتُ بيومٍ ... فيه أخْلو من الهوى والغرامِ
خالِيَ القلبِ من تَبارِيحِ وجدٍ ... وصدودٍ وحرقةٍ وهيامِ
كي يُراحَ الفؤادُ من طولِ شوقٍ ... قد سَقاه الهوى بكأسِ الحِمامِ
ومن منشآته
فصل في معاتبةٍ بتصديق الوشاة
المولى يعلم أن الواشي لا يخلو من أحد أمرين؛ إمّا أن يكون محبا ودوداً، أو عدوًّا حسودا.
فإن كان الأول فيستحيل أن يقصد المحبّ لحبيبه ضررا، ويحمّله من الإثم وزرا.
وإن كان الثاني فمعلوم أنه يجتهد في أذيّته بكل طريق، ويحرص أن يغري عليه كلّ عدو وصديق.
[فصل في معاتبة]
الصديق لفظ على الألسنة موجود، ومعناه في الحقيقة مفقود.
فهو كالكبريت الأحمر، يذكر ولا يبصر.
أو كالعنقاء والغول، لفظ يوجد بلا مدلول.
وما أحسن قول القائل:
صادُ الصديق وكافُ الكِيمِياءِ معاً ... لا يُوجَدان فدَعْ عن نفسِك الطَّمَعَا
وقول الآخر:
لما رأيتُ بني الزمانِ وما بهم ... خِلٌّ وَفِيٌّ للصداقةِ أصْطفى
أيْقنتُ أن المستحيلَ ثلاثةٌ ... الغُول والعنْقاء والخِلّ الوَفِي
وسئل بعض الحكماء عن الصديق فقال: اسم لامعنى له.
وهذه شيم غالب أبناء هذا الزمان، من الأخلاّء والإخوان.
فمثلهم كمثل العرض لا يبقى زمانين، ويستحيل في أسرع من طرفة عين.
أو كلمع السّراب، المستحيل فيه الشراب.
أو كالخيال الذي يبدو في المنام، وهو في الحقيقة أضغاث أحلام.