للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

في جُنْحِ لَيْلاتِهم أذْكارُهم ... تعرفُها بلابلُ الأسحارِ

كم دعوةٍ في المَحْلِ أضحتْ لهمُ ... تفْرِي جفونَ السُّحْبِ باسْتِعْبارِ

فارقتُهم لاعن رضًى وإنما ... عِنانُ عزْمِي في يد الأقْدارِ

نَشوانُ خمرِ السُّهدِ طَرْفي نومُه ... أغْرقه البكاءُ في تَيَّارِ

وما بكائي غيرَ رَشِّ أدمُعٍ ... يُوقِظ من نَوْمتِه اصْطبارِي

لعلَّ من لُطْفِ الإله مَدَداً ... يُوصِلني بهم إلى ديارِي

فأكْسِبُ الفوزَ بفضْلِ قُرْبِهمْ ... فربَّما يُجَرُّ بالجِوارِ

لا زال رَيْحانُ تحيَّاتي لهمْ ... يرِفُّ في روضِ الثَّنا المِعطارِ

واللطفُ ما زال يُحيِّي أرضَهمْ ... تحيةَ النسيمِ للأزْهارِ

وهذه فصول جعلتها لشعراء خطة الشام من وجوه قطانها، المنيخين في أعطانها، المقيمين بأوطانها.

ابتدأت منها بأهل المسجد الأقصى، وانتهيت إلى أهل حماة على الوجه المستقصى.

[فصل]

في شعراء القدس التي كانت قبلة القبل، وروضة الشرف التي أنبتت غصون الكرامة مثمرة بالقبل وناهيك بتربة عجنت بماء الوحي، وتوفر لقصدها الوخد والوخى.

وأهلها أصحاب الذوات القدسية، والبلاغة القسية.

والآراء السديدة، والنفوس الشديدة.

عصابةٌ في رءوسِ المجدِ إن ذُكِروا ... يفُوح مسكُ ثَناءِ البدوِ والحَضَرِ

ليت المَكارمَ لم تعشَقْ شمائَلهمْ ... فلِلْكمالِ رقيبٌ عائِنُ النَّظَرِ

فمن مشاهير بيوتها: بيت العلمي سلسلته لا يستقل بذكرها قلم، ولا يقطع علمٌ من وصفها إلا ويبدو علم.

ما منهم إلا من شد مئزره للأمر، وروى ظمأ الآمال بنائله الغمر.

عفُّ الإزار، خفيفٌ من الأوزار.

ازدادت به قبيله وعشيره، وظهرت فيه مخائل الرشد وتباشيره.

وأشهرهم:

[محمد بن عمر الصوفي]

إن كان أسرتُه بين الورَى علَما ... فإنه علَم في ذلك العلَمِ

ملك التصرف في التصوف، وأبدع التفرع في التعرف.

وطريقته في القوم، مبرأة من المحذور واللوم.

تحلى في إماطة الشبه بالاتقاء، وترقى في ذروة المعارف حدَّ الارتقاء.

وهو على وادئع الأسرار مأمونٌ ثقة، والقلوب كلها على جلالته متَّفقة.

ففمه قفل إجابة، ويده مفتاح إجابة.

وكلماته تدل على تمكنه في علم الأخيار، وتعرف أن نظره بمرآه الخيال مجلاة من غبار الأغيار.

ولم يبلغني من شعره إلا تائية ابن حبيب، ومطلعها:

بسم الإله ابْتدائي في مُهمَّاتِي ... فذاك حِصْنيَ في كلِّ المُلِمَّاتِ

بيت أبي اللطف ثنيَّة العلم والفتوة، وهضبة الحلم والمروة.

ما منهم إلا من حذا برياسة، وتروَّى من نفاسة وكياسة.

وأضاء بدراً وشمسا، وأفاض عشراً وخمسا:

ألطافُهم لا تزال سابغةً ... سائغةً حُجِبتْ عن الرَّنْقِ

تطيبُ آثارُهم لأنَّهُمُ ... من طَيِّب العُودِ طيِّب الوَرقِ

وأقربهم عهداً:

[على بن جار الله]

أحد أمجادهم، ومتقاد نجادهم.

فاتهم فضلا وكرما، وأضحى لزوار المكارم مناخا وحرما.

لا يرتجع وفد الآمال عن ساحته، ولا يزول لقب الندى عن راحته.

وهو رئيس الحرم ومفتيه، وملتمس الفضل ومؤتيه.

وله القدر العلي، والفضل الجلي، وكلماته على صدور الغانيات من الحلي.

إلا أنه فسيح مدى الافتنان، ممدود حبال الامتنان.

لم يزل في شعاب الفتاك يتوغل، وفي طريق الانتهاك يتغلغل.

وطفر آخراً طفرة النظام، فتفرقت آراؤه في أمورٍ أعيت على الانتظام.

وكان أمير غزة ابن رضوان ممن كثرت عليه عيونه، وساءت فيه ظنونه.

فاحتال عليه، في استدناه إليه.

حتى إذا حصل على تلك الأغراض، فتك فيه على غرة فتكة البراض.

وذهب كأمس الذَّاهب، والدهر هكذا واهب ناهب.

فالله يسهم له مع أهل الثواب، ويلهمه عند السؤال الجواب.

وقد أثبت له من أشعاره ما تود الشمس سناه، والنسيم اللَّدن رقة معناه.

فمنه قوله، من قصيدة مطلعها:

<<  <  ج: ص:  >  >>