للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وهي البلدة الطيبة الماء والهوا، التي توافقت على حسن بنائها ولطف أبنائها الأهوا.

أحياها الله تحية تنحط بالخصب سيولها، وتجر باللطف على سرحة الرياض ذيولها.

فيها الترحيب مذخور للمقيم والظاعن، ولا محل فيها يلفى للقادح والطاعن ولها المرأى الذي يسافر فيه الطرف فيأخذ بحظه، ويستولي عليه الفرح حتى يخاف على قلبه ولحظه.

فبينا تحسب الأرض نضاراً تكتسي برد الضحى فتحسبها عسجدا، وبينا ترى جناتها أنبتت دراً إذا هي أطلعت زبرجدا.

وهناك الحصن الذي عانق السماك، يكاد أهله يقتطفون نرجس الكواكب من فلك الأفلاك.

يزُرّ عليه الجوُّ جَيْبَ غمامِه ... ويُلْبِسها من حَلْيهِ الأنْجُمَ الزُّهْرَا

وقد أحاط به الخندق إحاطة الهالة بالقمر، والسوار بالمعصم، وحوله الأبنية الشامخة تستنزل بحسن رونقها النسر المحلق والغراب الأعصم.

ولأهلها من عهد بني حمدان أمراء الكلام، وأجل من استعملت في مدائحهم الدوي واستخدمت الأقلام.

اعتلاق بالأدب وارتباط. وتفوق فيه يدعو إلى حسد واغتباط.

ولشعرهم في القوب مكانة، كأنما شيدوا بأهواء القلوب أركانه.

فصبوا على قوالب النجوم، وغرائب المنثور المنظوم.

وباهوا غرر الضحى والأصائل، بعجائب الأشعار والرسائل.

وقد ظهر منهم قريباً جماعةٌ تنازعوا الفضل في غايات مستبق، وكل منهم وإن اختلفت حاله فالقول في فضله متفق.

إذا عَنَّ ذِكْراهم فتَمْزيق مَلْبَسٍ ... يُرِيح بَناءَ الفكر من حَلَّة العُرى

بمِحْراب صدر القلب مُعتكِف به ... هواهُم تلا من ذكْرهم ما تيسَّرَا

فمنهم:

[مصطفى بن عثمان البابي]

اصطفيته مفتاح الباب؛ لكونه منسوباً إليه، وجعلت معرفة القشر من اللباب، متميزاً به، ومحالاً عليه.

وأحسب أني أتييت بأمرٍ معقول، وإذا أرسلت نفسي في وصفه ووصف بلده فأجدها تقول:

البلدةُ الشهباءُ مشحونةٌ ... بلُطْف أشعارٍ وآدابِ

ممنوعةٌ بالسُّور لا يُبْتغَى ... دخولُها إلا من البابِ

وهو شرفٌ لعصره ومفخر، وبحر يهتاج عبابه ويزخر.

تمادى في ميدان الشهباء طلقه، واستوفى الخصلة التي ناسب فيها خُلُقَه خَلْقُه.

وأصبح في الفضل وحيدا، ولم تجد عنه النباهة محيدا.

وناهيك بمحاسن قلدها، ومناقب أنبتها وخلدها.

إذا تليت في المجامع، اهتزت الأعطاف وتشنفت المسامع.

وهكذا النسمات إذا هبت في الأسحار، رفت لها أهداب النبات وطنت آذان الأشجار.

تروق بها الخمرة في الكاس، وتجلو رويحات السحر إذا صدتها البشر بالأنفاس.

إذا وصفت علاه عكفت طيور المعاني على أوكار الفكر، وإذا تليت حلاه تنبهت عيون الرياض من نسمات الآصال والبكر.

وشعره ملكه الحسن رقة، فكاد تشربه الأسماع لطفاً ورقة.

كلامٌ بلا مُدامٌ بل نِظامٌ ... من المَرْجانِ أو حَبِّ الغَمامِ

يروح كأنه رَوْحٌ ورَاحٌ ... ويجْرِي في العُروق وفي العظامِ

وقد وافيتك منه بما يغالى في مدحه، ويعلم منه وفور قسمه من الأدب وفوز قدحه.

فمنه قوله يتوسل:

هوتِ المشاعرُ والمدار ... كُ عن معارجِ كبريائِكْ

يا حيُّ يا قيُّوم قد ... بهرالعقولَ سَنا بَهائِكْ

أُثنِي عليك بما علمْ ... ت وأين عِلْمي من ثنائِكْ

مُتحجِّب في غَيْبك الْ ... أحْمَى منيعٌ في عَلائِكْ

فظهرْتَ بالآثار والْ ... أفعالِ بادٍ في جَلائِكْ

عجباً خَفاؤُك من ظهو ... رِكَ أم ظهورُك من خفائِكْ

ما الكون إلا ظلمةٌ ... قبَسَ الأشعَّة من ضيائِكْ

وجميعُ ما في الكون فا ... نٍ مُستمِدٌّ من بقائِكْ

بل كلُّ ما فيه فقي ... رٌ مُستمِيحٌ من عطائِكْ

ما في العوالمِ ذَرَّةٌ ... في جَنْبِ أرضِك أو سمائِكْ

إلاَّ ووِجْهتُها إليْ ... كَ بالافْتقارِ إلى غِنائِكْ

إني سألتُك بالذي ... جمَع القلوبَ على وَلائِكْ

نورِالوجود خُلاصةِ الْ ... كَوْنَيْن صفوةِ أوليائِكُ

<<  <  ج: ص:  >  >>