وأما أدبه فالربيع زاهٍ بفضله، والحبيب منعمٌ بعد هجره بوصله.
شق الجيوب من الطرب، وعل النفوس بما هو أحلى من الشهد والضرب.
وشعر كل من عاصره بالنسبة إلى شعره المسترق النهى، إن لم يكن أرق من السها، فهو أخفى من منديل الرها.
فمما عربته منه:
لا أرَى كأسَ الأمال ... دارَ نَحْوِي في أمانِ
فهْو قد حقَّقتُ منه ... تابِعٌ دَوْرَ الزمانِ
الأمير يونس الموصلي، المعروف بسامي جم الأدب رائقه، سامي النظم فائقه.
رأيته وقد أخذ منه الكبر، واعتبرت منه العبر.
وهو يروع الليث في آجامه، ويخجل الغمام عنه انسجامه.
وكنت عاشرته مدةً قليلة، وحصلت منه على أمانٍ جليلة.
تنسكب علي فوائد تجاريبه كالمطر، فأراني بفضل عشرته قضيت من أمر الرحلة الوطر.
وكنت مدحته بأبيات، مستهلها:
برُوحِي بل بآبائي الكرامِ ... فتى تَفْدِيه أرواحُ الأنامِ
أقول فيها:
وكم لي فيه من عِقْد امْتداحٍ ... على الأيامِ مُتَّسِق النِّظامِ
يرُوقُك حُسْنُه فتراه لُطْفاً ... كما حدَّثْت عن صَفْو المُدامِ
قَوافٍ ليس تكسِبُه افْتخاراً ... ولو جاءتْ بمُعجزةِ الكلامِ
ففيه تقولُ أَلْسنةُ المعالِي ... سَما يسْمُوا سُمُوّاً فهْو سَامِي
وعربت من كلامه:
والروحُ منِّي في مَضِيقٍ إن تَجِدْ ... فَرَجاً أبَتْ أن نلْتقِي في المَحْشرِ
أحمد المعروف بفصيح حيٌّ موجود، لكنه منقطعٌ عن الوجود.
بشهامة نفسٍ لها في ذاتها تفرد، ولطف أدب كأنه في وجنة الزمان تورد.
وقد صحبته بالروم وله رواءٌ وبزة، وغصن كماله تتساقط ثمراته بأدنى هزة.
ثم عدل إلى توحشٍ وانقطاع، ولله تعالى في خلقه أمرٌ مطاع.
وكان أنشدني من أشعاره قطعاً في الغزل، ما زلت أتمتع بها في أوقات الوحدة، ولم أزل.
وقد عربت منها هذا المفرد:
علمتُ لمَّا فَكَّ عن صدرِه ... كيف تشُقُّ الشمسُ جَيْبَ الصباحْ
الباب الرابع
في ظرائف ظرفاء العراق
[والبحرين والعجم]
أما فضل العراق، فكالشمس حالة الإشراق.
وحسبك أنه في جهة مطلعها الذي هو الشرق، وإذا قيس بالغرب فكأنما سوي بين القدم والفرق.
وشتان بين ما تجلى الشمس منه فوق منصتها، وبين ما يشره أفقه الغربي لابتلاع قرصتها.
وأما أهله فهم ملائكة الأرض، وبهم لاق من المدح المسنون والفرض.
وشعراؤه قد هاموا من البلاغة في كل واد، وجلوا غررهم في سواده وأحسن ما لاحت الغرر في السواد.
وقد خرج قريباً منهم جماعةٌ أطلعوا ذكاء ذكائهم في أفقه المشرق، وملأوا ببضائع فوائدهم ونصائع فرائدهم حقائب المشئم والمعرق.
عبد علي بن ناصر بن رحمة الحويزي أوحد من أبدع وأغرب، وشعر فأبان عن إعجازه وأعرب.
ما شئت من استحكام المبنى، وانقياد اللفظ الغر من المعنى.
وحسن الأسلوب الذي تشبث بالحشايا، ونصاعة المقترح الذي تبتهج به البكر والعشايا.
وشعره تملكه الرقة على الشوادن العفر، ويكسب القدود خفةً فتكاد تسترقص على الظفر.
أرقُّ من دمعةٍ شِيعِيَّةٍ ... تبْكي على ابن أبي طالبِ
فالهوى أول تميمةٍ قلدته الداية، والصبابة هي التي عرفها من البداية.
ودخل بغداد فتخلق ثمة بأخلاقٍ عذاب، وكان كابن الجهم بعث إلى الرصافة ليرق فذاب.
ثم التحق بابن افراسياب صاحب البصرة فألقى عنده رحله وحط، والتم في كنفه بعد ما شط.
ففك من يد العسرة وثاقه، وأخذ على الدهر باستقالة عهده ميثاقه.
فأقام في ظله إلى وقت زواله، ومضى فلم يبق بعده في تلك الناحية من يعتني بأقواله.
وقد أوردت من شعره ما يسكر العقول بصهبائه، ويدل على أنه أخذ من بحر القريض أنفس دره وولع الناس بحصبائه.
فمنه قوله، من قصيدة يمدح بها الأمير علي بن افراسياب، ويستأذنه في الحج:
لمع البرقُ في أكُفِّ السُّقاةِ ... وبدا الصبحُ في سَنا الكاساتِ
فالبِدارَ البِداَر حَيَّ على الرَّا ... حِ وهُبُّوا لأكْمل اللذَّاتِ
نارُ موسى بدَتْ فأين كليم الذَّ ... اتِ يمْحو بها حجابَ الصِّفاتِ