مُعاشرةُ الإنسانِ مَن لا يُطيعه ... وحَشْرُ الفتى مَعْ غيرِ أبناء جنسِهِ
ومن لطائفه: أنه ذكر بحضرته فتى إذا جرى في وصف الحسان تصريح، فإنما هو لحسنه البديع تلميح.
تعيذه من خجلات الغرام، لما ترمقه عيون الملام.
فشغف به على السماع، وأوقف على حبه الأطماع.
ومازال به هائماً، وفي بحار عشقه عائما.
تأخذه حيرة التذكر، وتملكه لهفة التفكر.
فأنشده يوماً بعض الأدباء أبيات أبي العز الضرير، وقصد لومه في حب ذاك الظبي الغرير.
وهي:
قالوا عشِقتَ وأنت أعْمَى ... ظَبْياً كحِيلَ الطَّرْفِ ألْمَى
وحُلاهُ ما عاينْتَها ... فنقُول قد شغَلتْك وَهْماَ
من أين أرْسَل للفؤا ... دِ وأنت لم تنظُرْه سَهْمَا
وخيالُهُ بك في المنا ... مِ فما أطافَ وما ألَمَّا
فأتم جوابها من حفظه:
فأجبتُ إنِّي موُسَوِيُّ ... العِشقِ إنْصاتاً وفهماَ
أهْوَى بجارحةِ السَّما ... عِ ولا أرى ذاتَ المُسَمَّى
[أبو مفلح محمد بن فتح الله البيلوني]
ماجد أفلح رائده، وجلت فوائده وفرائده.
صفحته البدر إلا أنه مشرق، وحديثه الروض إلا أنه مورق.
وهو بمكان من النباهة مكين، يطلع له من كل ناحية على جيش البلاغة كمين.
ومع وقاره الذي به يعرف، يبدو له النكات ما يستملح ويستظرف.
وبلغت به السن وهو جوّاب بلاد، ومنفقٌ من رياشه كل طريف وتلاد.
فجاءت أيامه في تقلبات تقتضيه، لكنها لم تخل في الحظ من فلتات تسترضيه.
تصقل الأصائل ديباجتها، وتشعشع البكر زجاجتها.
فكم شغف به المدح المحبَّر، وتشوَّق إليه الثناء المعطَّر.
حتى إذا قربت به النوى، وادَّنت به على إلمام من فضل الثَّوا.
طلع طلوع النجم في الآفاق، وهبّ هبوب النسيم على أخلاق الرفاق.
وحل من الجفون محل الوسن، ونزل من القلوب نزول الفأل الحسن.
وقد رأيته بدمشق ووالدي يوسعه رعيا ومبرة يوترنح باغتنام محاضرته جذلا ومسرة.
وصبح وجهه يومئذ لم يبق فيه أثر غيهب، وكميت صباه جرى فعاد وهو أشهب.
وتناولت بعد من أشعاره المتهدلة الأغصان، أشياء تقرطت بزهرات الحسن والإحسان.
فمنها قوله، من قصيدة مستهلها:
دُمْتَ يا مَرْبَع الأحبَّة تَنْدَى ... كاسياً بالزهور بُرْداً فبُرْدَا
ياله مربَعاً إذا جاده النَّو ... ءُ فساقِى الصَّبوحِ يقطِف وردَا
وإذا انْساب في جداولهِ الم ... اءُ حساماً جلَى النسيمُ الفِرِنْدَا
جَنَّةٌ والغصونُ في حُلَل الأزْ ... هارِ حُورٌ بها ترنّح قَدَّا
وتهادَى مَعاطِفُ الْبانِ سُكْراً ... كتهادِي العناق أخْذاً وردَّا
وتُديرُ الصَّبا كؤوسَ شذَا النَّوْ ... رِ على نَغْمة البلابلِ سَرْدَا
كيف جُزْتِ الطريقَ يوماً ومن خَو ... فِك دمعي بالسيلِ يسلُك سَدَّا
لو رعيتِ العهودَ أحسنتِ لكن ... قلَّما تحفظُ المليحةُ عهدَا
وقوله من أخرى، مستهلها:
وجهٌ يقابلني لكنه قمرُ ... في الليلِ يطلُع لكن ليلُه شَعَرُ
نظرتُه فسَطا في القلب ناظرُه ... ورُبَّ حَتْفٍ به قد أوقع النظرُ
لله ما صنعتْ بي وَجْنتاه ومَن ... للنَّار يقرُب لا ينفكُّ يسْتعِرُ
ظَبْيٌ سبَى اللبَّ إلا أنه ملَكٌ ... من الملائك لكن طبعُه بشَرُ
عُلِّقتُه بدويّاً راق منظرُه ... ورقَّ حتى استعارتْ دَلَّه أُخَرُ
للسحر من لفظه معنىً بقوَّتِه ... عن العقول صوابُ الرأيِ مستترُ
ما شاقَني قبلَ رُؤْيا وجهِه قمرٌ ... ولم يُشَم بعد رَيَّا نعلِه عَطِرُ
جمُّ المحاسن معسولُ الدَّلال له ال ... قَدُّ الذي خَصْرُه لا يُدرِك البصرُ
لا عيبَ فيه سوى أن المحاسنَ من ... دون الأنام جميعاً فيه تنْحصرُ
عن كأسِه خدَّه سَلْ يا نديمُ لكي ... يُنْبيك أن الحُمَيَّا منه تُعتصَرُ