للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

لله ليلة أنسٍ قد ظفرت بها ... قضَّيتها سهراً أحلى من الوسنِ

قد بتُّها وعيون الدَّهر غافلةٌ ... عنِّي ولم أخش فيها حادث الزَّمنِ

في روضةٍ رحبة الأكناف عاطرة ال ... أنفاس قد جلِّيت في منظرٍ حسنِ

والوُرقُ في دوحها باتت تطارحني ... شجواً لِما عَلِمتْ في الحبِّ من شجني

فتارةً فرط أشواقي يرنِّحها ... وتارةً طول مبكاها يرنِّحني

وبات ظبيٌ تناجينا لواحظه ... بين الورى هي كانت منشأ الفتنِ

تُعزى الشُّمول إلى معنى شمائله ... والَّلاذُ يشبه منه رقَّة البدنِ

بتنا كغصنين في روضٍ يرنِّحنا ... ريح الصَّبا فَحَنا غصنٌ على غصنِ

وبات عندي شكٌّ في معانقتي ... إياه حتى حسبت اللُّطف صاحبني

يا ليلةً منه أرضاني الزَّمان بها ... عنه على أنَّه ما زال يسخطني

ومن مقاطيعه قوله:

كلَّما حدَّثت قلبي سلوةٌ ... عن هواهم قال لي لا يمكنُ

وإذا ذكَّرته أنَّهم ... قد أساءوا قال لا بل أحسنوا

وقوله:

قد وقفنا بعد التَّفرق يوماً ... في مكانٍ فدَّيته من مكانِ

نتشاكى لكنْ بغير كلامٍ ... نتحاكى لكنْ بغير لسانِ

يوسف أبي الفتح إمام الأئمة، ومن ألقت إليه مقاليد الحظوة الأزمَّة. فتميز على أترابه وأخدانه، تميُّز سميَّه على إخوانه.

وذلك أنه من منذ ناست عذبة ذؤابته، وأومضت للمتفرِّس مخيلة نجابته.

تطلَّع في أعلا المصلَّى كأنما ... تطلَّع في محراب داودَ يوسفُ

فرقي منبر المسجد الجامع خطيباً، وملأه مسكاً فلم يدر أضمَّ خطيباً، أم ضَمِّخَ طيباً.

وأتى بما يقرط الأسماع لؤلؤاً، ويملأ الأفواه طيباً والمحافل تلألؤاً. فطار صيته في الآفاق، ووقع على تفرُّده في أسلوبه الاتفاق.

حتى تطلبه السلطان فصيَّره إمامه، وتوجه من التقدمة بتلك العمامة. فقامت الأماني خلفه صفوفاً، واستوعب من المعالي أنواعاً وصنوفاً. وما زال من حين خروجه، يتنقَّل تنقُّل القمر في بروجه. إلى أن صار ثالث القمرين، وفاز برتبة قضاء العسكرين.

وكان مع ما أعطيه من الرتبة التي لا تنال إلا بالتمني، والحرمة التي ترمى لنيلها المطايا بالتعَّني. لم يبرح يحن إلى مواطن إيناسه، ويرتاح إلى مراتع غزلان صريمه وكناسه.

هذا، وله الفضل الذي تليت سور أوصافه، وجليت صور اتسامه بالتفوُّق واتصافه.

والتصانيف التي ما جعلت الأقلام ساجدةً إلا لمّا رأت محاريب قرطاسها، وما سميت خرساء إلا قبل أن ينفث في روعها روائع أنفاسها.

وأما الأدب فهو إمامه الذي به يقتدى، وسابقه الذي بذكره يبتدى.

وله الشعر الذي اقتبس ألفاظه من ذوات الأطواق، واختلس معانيه من حنين العشاق تكابد الأشواق. يطرب من لم يكن يطرب، ويكاد لفظه من العذوبة يشرب.

وها أنا أورد منه ما تتباهى به حروف الرقاع، ويلذ في السمع لذة الغناء من كل شكلٍ حسنٍ على الإيقاع.

فمنه قوله من قصيدة أولها:

هذا الحمى أين الرَّفيق المنجد ... قد يمَّم الخيف الفريق المنجدُ

بانوا فلا داري بجلَّق بعدهم ... داري ولا عيشي لديها أرغدُ

وعلى الأكلَّة فتيةٌ لعبت بهم ... راح السُّرى والعيس فيهم تسجدُ

يتهافتون على الرِّحال كأنهم ... قضبٌ على كثب النقا تتأوَّدُ

واهاً على وادي منًى والهفتي ... لو لهفتي تجدي وآهي تسعدُ

كانت عروس الدهر أياماً لنا ... فيه ثلاثٌ ليتها لي عوَّدُ

عهدي به مغنى الهوى تستامه ... عينٌ مسهَّدةٌ وقلبٌ مكمدُ

ما باله بعد الثلاثة أقفرت ... منه معالمه وأقوى المعهدُ

يا هل لليلاتٍ بجمعٍ عودةٌ ... أم هل إلى جمع المعرَّف موعدُ

جسمي بأكناف الشآم مخيِّمٌ ... وهواي بالرَّكب اليماني مصعدُ

تالله هاتيك الليالي أسأرت ... في مهجتي ناراً تقوم وتقعدُ

<<  <  ج: ص:  >  >>