للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أسارع إليه مسارعة موفٍ لا مقرض، وأتعرض إلى خدمته تعرض مقبل لا معرض.

فأستجلى أحاسن المحاسن، وتنقاد لي بدائعه ذلل المراسن.

وقد انقبض حيناً عن الناس، وعد الوحشة من الإيناس.

وانعكف على دواوينه، وكلف بالعلم وأفانينه.

ثم نبه جفنه بعض انتباهة، فطار في أفق الشام بين نزاهة ونباهة.

وسافر ذكره للركبان زادا، كما أقام فضله للوارد عتادا.

وقد ورد القاهرة وأنابها أماطل الشوق وهو غريم، وأطلب فيض الدمع وهو كريم.

فتألفت معه في مجلس الأستاذ زين العابدين لا زالت مطارح أعماله سعيدة، ومطامح آماله قريبة والأكدار عنها بعيدة.

كما تألف الأرى مع القند، ونيطت الكف إلى الزند.

ورويت غلل الشوق من تلك الراح، بما لم يكن في قدره الماء القراح.

وكتبت إليه لما دخل القاهرة:

أهلاً بمولىً للثناءِ أهلُ ... يَفْدِيه منى القومُ والأهلُ

من جَلَّ عن مَثَلٍ ومَن مِثْلُه ... هيهات أن يُلْفَى له مِثْلُ

فضلُ البرايا فيه مُسْتجْمِعٌ ... فكلُّه إن تختبرْ فضلُ

إن ذكرتْ آياتِه فتيةٌ ... راح فَمُ الدهرِ لها يتْلُو

كم طال شوقي وغرامي له ... والدهرُ من عاداته المَطْلُ

حتى قضى اللهُ لنا باللِّقا ... فتمَّ لي من قُرْبِه السُّؤْلُ

وكان لي في فضلِ عِرْفانِه ... عن كل شغلٍ في الورى شُغْلُ

مولاي الذي سار في بروج الفضل مسير الشمس، وقامت فضائله في جسم العالم مقام الحواس الخمس.

لازال في السكون والحركة، موافق اليمن والبركة.

يفرح به كل فطر ينازله، كأنه البدر والدنيا منازله.

ومن شايعه مسعودٌ يومه وغده، وله من العيش أهناه وأرغده.

كتبت هذه الخدمة ولي قلبٌ على شوقك يتقلب، وكما عهدته انقلب إلى غيرك ولو يكون له ألف لولب.

كيف وأنا شعبةٌ من دوحتك، وغصنٌ من سرحتك.

بل نبتٌ سقته أياديك، وزهرٌ تفتح بما أفاضته غواديك.

وكنت قبل أن يسود الدهر منشود عذارى، ويكلفني وقد رأى كلالي إلى بسط أعذاري.

ومشرب العيش لم يخش غصة لومٍ يشرق بها من مسمع الصب ناهله، ومورد الأنس قد صفا عذبه ولكن تكدر من خوف الوشاة مناهله.

وشرف الشام بك شرف الجثمان بالروح، وانتعاشها بأنفاسك انتعاش الغصن بالنسيم المروح.

أستغنى بطرفك عن الثلاث المذهبات، وأستكفى بتحائفك التي علقتها بأذن سمعي عن السبع المذهبات.

إلى ما تناولته من دقائق حقائق، يحمر لها خجلاً في روض مذهب النعمان الشقائق.

وقد ربطت بك جملتي فما أعد سواك وكيف لا، وإني ما أتيت إلا فريضة وآتى جميع الناس إلا تنفلا.

ونظمت من مدحك في جيد الدهر قلائد، يقول البحر من أين أخذ مثل هذه الفوائد.

وكنت أتمنى أساهمك العمر وأشاطرك، على شرط ألا أتصور ما ينفر خاطرك.

فأبى الدهر إلا تشتيتي عنك في البلاد، ولولا هنيئة لقائك لقلت جرعني صاب الفرقة من ساعة الميلاد.

لكني أحمد الله تعالى على أن تداركني مدة غيبتك، بحضور معنىً من شخصك يسليني في الجملة عن رؤيتك.

ثم أردف ذلك ولو بعد تراخٍ في المدة، باجتماع كان النعمة الغير المترقبة والفرج بعد الشدة.

حيث يحمد المغدى والمراح، ولو اقترح على الزمان مطلبٌ كان هو الاقتراح.

فأمتعني الله فيه بمقدمك، وأسعدني بأغلى موطئ قدمك.

فسقيا لوقتٍ جمع بيننا، ورعيا لدهرٍ أزاح بيننا.

ولله بلدٌ موطن منى، وطلاعة أقمار سنا.

ومترنح نعيمٍ وحظٍ، ومتمتع قلب ولحظ.

وأحسبها الآن نافست بفضل الكمال، وكمال الفضل، وستصدر بالأماني والآمال، موفاة بالثناء الجزل، والقول الفصل.

ولها عندي على هذا الجميل ثناء الروض على الغمام، والزهر على الأكمام، والساري على القمر التمام.

ولئِن نَسِيتُ جميلَ مصرٍ بعدها ... طولَ الزمان فلا بلغتُ الشَّامَا

ثم فارق مصر موفر الآمال، ودخل الحجاز مختوماً له بصالح الأعمال.

فالله سبحانه وتعالى يقرن التوفيق بسكونه وحركته، وينهضنا إلى ما عرفناه من يمنه وبركته.

وقد اخترت من شعره الرائع التطريز، ونثره الخالص الإبريز.

ما يروق كما راقت ناجمة الحباب، ويشوق كما تشوق أحاديث الأحباب.

فمن قوله في الغزل:

<<  <  ج: ص:  >  >>