للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وقفْنا بها حتى لِطُول وُقوفنا ... تخيَّلتُ أنَّا قد خُلِقْنا من الدَّارِ

أذَلْنا مَصُونات الدموع برَبْعها ... ولمَّا نَجِدْ من سَكْبنا الدمعَ من زَارِ

خلَتْ بعد ما كانت مَناخاً لراكبٍ ... ومَلعَبَ أتْرابٍ ومَجْمعَ سُمَّارِ

ومَرْتعَ غزْلانٍ ترى الصِّيد صَيْدَها ... فقُل في غزالٍ يْصرعُ الأسَدَ الضارِي

وعصرِ تَصاب قد فُجعتُ بفَقْدِه ... وماضي شبابٍ رحتُ من حَلْيِه عارِي

لِئن قصُرتْ أيامُه فلَشدّ ما ... تولَّت وأبْقت طولَ بَثِّ وتَذْكارِ

ألا في أمانِ الله عصرٌ لفَقْدِه ... من العيش والَّلذاتِ قلَّمتُ أظفْارِي

وقلتُ لِداعِي الغيِّ نَكِّبْ فطالَما ... لغير رِضَى الرحمن أشْغلتُ أفكارِي

وقوله، من قصيدة أخرى، يمتدح بها أستاذه محمد بن محمد بن إلياس، المعروف بابن جوي، مفتي السلطنة:

عوَّضتَ معروفاً عن الياَسِ ... يا خادماً باب ابن إلْياِس

فاصْغَ لما أشرحُ من حالةٍ ... أسمُو بها ما بين أجناسِي

خدمتُ مفتى العصر وهْو الحَيَا ... فلم يدَع بِرِّى وإيناسِي

وصرتُ في خدمتِه ناعماً ... في نعمةٍ تُسدَى بلا باِس

لا اعرف الهمَّ ولا أشتِكي ... خَطْباُ بَلَى قلبي بوَسْواِس

فسَيْبُه سيلٌ إذا رُمتَه ... ومجدُه كالشامخ الراسِي

إن كسَر الدهرُ فؤادَ امْرئٍ ... تراه بالجَبْرِ هو الآسِي

إن رُمْتَ تدْري بالنَّدَى سَحَّةُ ... فصَوْبُه مَعْ مَرِّ أنفاسِي

أما ترى رِقَّةَ مدْحي له ... تُغْنيك عن دَنٍّ وعن طاِس

قد أمر الفتحُ بأمرِ عُلًى ... أجبْتُه طوعاً على راسِي

قل لبنِي الدنيَا ألا هكذا ... فليصنْعِ الناسُ مع الناِس

البيت الأخير مضمن، من ثلاثة أبيات للفتح بن أبي حصينة.

ولها قصة، وذلك ما ذكر أنه امتدح نصر بن صالح بحلب، فقال له: تمن.

فقال له: أتمنى أن أكون أميراً بحلب.

فجعله أميراً، وخوطب بالأمير وقربه نصر، وصار يحضر في مجلسه في جمل الأمراء.

ثم وهبه أرضاً بحلب، قبلي حمام الواساني، فعمرها دارا، وزخرفها، وقرنصها، وأتم بناءها، وكمل زخارفها، ونقش على دائر الدرابزين قوله:

دارٌ بنيْناها وعشْنا بها ... في نعمةٍ من آلِ مِرْداسِ

قومٌ مَحَوْا بُؤْسي ولم يتركوا ... علىَّ للأيام من باِس

قل لبني الدنيا ألا هكذا ... فليصْنع الناسُ مع الناسِ

فلما انتهى العمل بالدار عمل دعوة وأحضر نصر بن صالح.

فما أكل الطعام، ورأى الدار، وحسنها، وحسن بنائها ونقوشها، وقرأ الأبيات؛ فقال: يا أمير المؤنين، كم خسرت على هذه؟ فقال: والله يا مولانا ما للملوك علم، بل هذا الرجل ولى عمارتها.

فلما حضر المعمار، قال له: كم لحقكم غرامة على هذا البناء؟ فقال له المعمار: غرمنا عليها ألفي دينار مصرية.

فأحضر من ساعته ألفي دينار مصرية، وثوب أطلس، وعمامةً مذهبةً، وحصاناً أبلق، بطوق ذهب، وسرج ذهب، ودفع ذلك إلى الأمير الفتح، وقال له:

قُلْ لبني الدنيا ألا هكذا ... فليصْنع الناس مع الناس

وقد ضمن هذا البيت القاضي شهاب الدين بن حجر، في مدح البدر الدماميني، فأحسن جدا حيث قال:

نسيتُ أن أمدح بدرَ العُلَى ... فلم يدعْ بِرِّى وإيناسِي

قُل لبني الدنيا ألا هكذا ... فلْيصنعِ الناسُ مع الناسِ

وله يصف منتزها في الروم، بالقرب من أق بابا:

حللت بالرُّوم دَوْحا هاج أشْجاني ... حَنَى علىَّ بخيْراتٍ وإحسانِ

حوَى مع الأُنْس ما يُسلِى اللبيبَ به ... عن ادِّكارِ شَآمٍ أو خُراسانِ

مَجامرُ الزَّهر في أرجائه نفَحْت ... والوُرْق قد صدَحتْ فيه بأفْنانِ

<<  <  ج: ص:  >  >>