للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فإن أنْعَم المولى بحَلِّ وَثاقي من يد الحِرمان، وأحلَّني من ربيع فضلهِ في رَبْوة الإحسان.

فأكرُم الخيل أشدُّها حَنِيناً إلى وطنه، وأعتق الإبل أكثرها نزاعا غلى عطنه.

فليهتز فرص الاقتدار، ويغتنم التجاوز عن عثرات الأحرار.

فالدابة تضرب على النفار، لا على العثار.

فليس لي سواه أعول عليه، وأرفع قصتي إليه.

وهيْهات أن يُثْنَى إلى غيرِ بابِه ... عِنانُ المطايا أو يُشَدَّ حِزامُ

وهذه رقعة الوهرانيّ، وهي من لطائف نزعاته، ومحاسن مخترعاته: المملوكة ريحانة بغلة الوهرانيّ، تقبل الأرض بين يدي الأمير عز الدين، حسام أمير المؤمنين.

نجاه الله من حر السعير، وعظم بداره قوافل العير.

ورزقه من التِّبن والشَّعير، وسق مائة ألف بعير.

واستجاب فيه أدعية الجمّ الغفير، ومن الخيل والبغال والحمير.

وتنهى إليه ما تقاسيه من مواصلة الصيام، والتعب في الليل والدوابُّ نيام.

قد أشرفت مملوكته على التَّلف، وصاحبها لا يحمل الكلف، ولا يوقن بالخلف، ولا يقول بالعلف.

وإنما يحلّ به البلاء العظيم، في وقت حاجتي إلى القضيم.

والشَّعير في بيته مثل المسك والعبير، والأطريفل الكبير.

أقلُّ في الأمانة من النصارى الأقباط، والعقل في رأس قاضي سنباط.

فشعيره أبعد من الشِّعرى العبور، ولا وصول إليه ولا عبور.

وقرطه أعزُّ من قرطي مارية، لا يخرجه صدقةً ولا هبةً ولا عارية.

والتِّبن، أحبُّ إليه من الابن.

والجلبَّان، أعز عنده من دهن البان.

والقضيم، بمنزلة الدُّرِّ النَّظيم.

والفصَّة، أجلُّ من سبائك الفضَّة.

والفول، دونه ألف باب مقفول.

وما يهون عليه يعلف الدوابّ، إلا بفنون الآداب، والفقه الُّلباب، والسؤال والجواب، وما عند الله من الثواب.

ومن المعلوم أن الدوابَّ لا توصف بالحلوم، ولا تعيش بسماع العلوم.

ولا تطرب إلى شعر أبي تمَّام، ولا تعرف الحارث بن همام.

ولا سيما البغال، التي تستعمل في جميع الأشغال.

مسكبة قصيل، أحب إليها من كتاب التَّحصيل.

وقفَّة دريس، أشهى إليها من فقه محمد بن إدريس.

ولو أكل البغل كتاب المقامات، لمات.

ولم لم يجد كتاب الرَّضاع، لضاع.

ولو قيل له: أنت هالك، لم يأكل موطأ مالك.

وكذلك الجمل، لا يتغذَّى بشرح أبيات الجمل.

ووقوفه في الكلا، أحبُّ إليه من شعر أبي العلا.

وليس عنده طيِّب، شعر أبي الطيِّب.

وأما الخيل، فلا تطرب إلا إلى استماع الكيل، وإن أكلت كتاب الذيل، ماتت بالنهار قبل الليل، والويل لها ثم الوبل.

ولا تستغنى الأكاديش، عن أكل الحشيش، بكل ما في الحماسة من شعر أبي الخريش.

وإذا أطعمت الحمار، شعر ابن عمَّار، حلَّ به الدمار.

وأصبح منفوخاً كالطبل، على باب الإسطبل.

وبعد هذا كله فقد راح صاحبها إلى العلاف، وعرض عليه مسائل الخلاف، وطلب من بيته عشر قفاف، فقام إلى رأسه بالخفاف.

فخاطبه بالتقصير، وفسَّر له آية العير، وطلب منه قفَّة شعير، فحمل على عياله ألف بعير.

فانصرف الشيخ منكسر القلب، مغتاظاً من الثَّلب، وهو أخسُّ من ابن بنت الكلب.

فالتفت إلى المسكينة، وقد سلبه الغيظ ثوب السكينة.

وقال لها: إن شئت أن تكدِّي فكدِّي، لاذقت شعيرة ما دمت عندي.

فبقت المملوكة حائرة، لا قائمة ولا سائرة.

فقال لها العلاف: لا تجزعي من خياله، ولا تلتفتي إلى سباله.

ولا تنظري إلى نفقته، ولا يكن عندك أخسّ من عنفقته.

هذا الأمير عز الدين، سيف المجاهدين.

أندى من الغمام، وأمضى من الحسام، وأبهى من البدر ليلة التمام.

لا يرد سائلاً، ولا يخيِّب آملاً.

فلما سمعت المملوكة الكلام، جذبت اللجام، ورفست الغلام، وقطعت الزمام، وشققت الزِّحام، حتى طرحت خدها على الأقدام، ورأيك العالي والسلام.

وله من رسالة كتبها إلى منصور الطبيب الغزواني، يشكو إليه علة لزمته، وبرداً وقع في ذلك العام، خارجاً عن معتاد الشام.

أنا أصبحتُ لا أُطيق حَراكاً ... كيف أصبحت أنت يا منصورُ

قد طالت العلَّة، وطابت العزلة.

فليس في الحركة، هذا الآن بركة.

والانقطاع، أربح متاع، والاجتماع جالب الصُّداع.

والاختلاط، محرّك الأخلاط.

والوحشة استنئناس، وأجمع للحواس.

فهو زمان السكوت، وملازمة البيوت، وأوان القناعة بالقوت، وذلك قوت من لا يموت.

<<  <  ج: ص:  >  >>