للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فلما مررت على الرملة عند رحلتي إلى القاهرة، كان أول طالعٍ علىّ من آفاقها الزاهرة.

ففاتحته بهذين البيتين:

لقد كنتَ في قلبي ولم يحصلِ الِّلقا ... وأنت به أحْلَى من المَبْسمِ العَذْبِ

فقرَّتْ بحمدِ الله عيني بنظْرةٍ ... فلم أرَ أحْلَى منك في العينِ والقلبِ

وكان في صحبته أمين الدين القدسي وأبو الهدى الرملي، وهما ماهما، جاد صوب فضلهما وهمى.

وبينه وبينهما مصافاة تقتضي حقا يوفى، وفرضاً يؤدى، ووصفاً يصفى.

فقلت أخاطب أمين الدين:

يا أميناً ذاتُه دُرٌّ ثمينُ ... أنت للعلْياء عينٌ ويمينُ

إن وُدّاً صادثاً أوْدَعْتنِي ... أنا عنه عُمْرَ دهري لا أَمِينُ

حاضراً أحْبُوك أصْناف الثَّنا ... وعلى غَيْبك أني لا أمِين

وقلت في أبي الهدى:

هَداني النجمُ إلى مِدْحَةِ مَن ... تلفَّع المجدَ وبالفضلِ ارْتدَى

وكيف لا يُهْدَى إلى الرشادِ مَن ... دليلُه النجمُ إلى أبي الهُدَى

وهو الآن في تلك الخطة رئيس الحقل، وإمام الفرض فيها والنفل.

زند مجده قادح، وما فيه طاعنٍ ولا قادح.

فالله يجعل نتائج حياته، تابعةً لأحسن مقدماته.

وكان صدر بيني وبينه محاورات، بأرق معان وألطف عبارات.

تلاحظ بها أقمارُ المنى فتشرق، وتنظر إلى أكناف الحمى فتراها بصيبها تورق.

فمما كتبته إليه هذه النونية:

رُدُّوا المسرَّة والكرى لجُفوني ... وهو القرارُ لقلبيَ المحزونِ

لم أدْرِ قبل هواكمُ أن النوَى ... يُبْدِي من الأشْجان كلَّ دَفِينِ

أو أن سلطانَ المحبِة يقتضِي ... أن الأسودَ تبيتُ أسْرَى العينِ

أما النفوسُ فلم يدَعْ منها الجوَى ... إلَّا بَقايا زَفْرةٍ وأنينِ

لما رآني الطيْفُ رَقَّ ترحُّما ... وبكى على بلُؤلُؤٍ مَكْنوِنِ

وسرى وأيْقَن أنه لو زارني ... أُخرى لأخطأني فلا يعْدُونِي

آهٍ وهل يشْفِى العليل تأوُّهٌ ... شوقاً لعهدٍ بالوفاء قَمِينِ

أيَّامَ يحْدُني الصِّبا ويسُوقني ... قسراً إلى الَّلذاتِ غير غَبِينِ

لا أخْتشِى مَسَّ الحوادث آمِنا ... وأخو النُّهى مَن بات غيرَ أمينِ

والآن أبْكي إن أُصِبتُ بنعمةٍ ... قبل الزَّوالِ لفطْنتي ويقينِي

ولقد سبَرْتُ بني الزمان فلم أجدْ ... خِلّاً إذا أرْضيْتُه يُرضيني

فتركْت مَن كنت الضَّنينَ عليه مِن ... فَرْط الهوى وأراه غيرَ ضَنِينِ

وغدَوْتُ فيهم كالحُسام مُجرَّداً ... من غِمْدِه فرداً بغَيْر مُعِينِ

نَاءٍ عن اللذاتِ إن بَخِل الحَيَا ... أغنيتها عنه بغيْثِ جُفونِي

لا أرْتضي شمس النهارِ قرينةً ... وأعاف ظِّلى أن يكون قَرينِي

أسْتصغرُ العظماءَ حيث وجدتُهمْ ... وأرى مقاتل والثُّريَّا دُونِي

ليس احْتقاري للأنام تهاوُنا ... بهمُ ولا خطر الورى بظنُونِي

لكن أعُدُّ من البهائِم مَن خَلَا ... عن فضلِ فردِ العصر نجمِ الدِّينِ

مَولى سواه هلالُ شَكٍّ في العلى ... وجَنابُه المحروس شمسُ يقينِ

قد كوَّن الرحمنُ جوهرَ ذاتِه ... لُيرِى العبادَ عجائب التَّكْوينِ

وأظنُّه من فَرْط طاعتِه أتى ... للكونِ بعد الكاف قبل النونِ

بحرٌ بِحارُ الأرض تغرَق في نَدَى ... كَفَّيْه لستَ تُحيطُه بسَفِينِ

لا يبلُغ المِكْثارُ عُشْرَ صِفاتِه ... لو حُفَّ بالتأييد من جِبْرِينِ

هو نجْل خير الدين شيخ العصر من ... غنِيتْ مآثرُه عن التَّدْوينِ

فسقَى ضريحاً ضَمَّه صَوبُ الحيَا ... يهْمِى عليه من الرِّضا بهَتُونِ

<<  <  ج: ص:  >  >>