للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

صحبته بالروم فشاهدت ملكاً في صورة إنسان، مطبوعاً على الخير فما يشاب بشرٍ ولا يشان.

فما شرته محباً له محبة الصحابي للسنة، وفارقته فتلهفت عليه تلهف آدم على الجنة.

أنسى الأيام وأذكره، وأذك مكارمه فأشكره.

وهاجر آخر أمره إلى مكة، فكان بها سحاباً ماطراً، ونسيماُ إذا هب هب عاطراً.

فأقبل أكثر أهلها عليه، وسلموا زمام انقيادهم إليه.

ووردوا مشرع وفاقه، وانتظموا في سلك رفاقه.

ثم لم يلبث أن دعاه الكريم إلى داره، فتولاه عفوه بمنهله ومدراره.

وكان أملى علي من أشعاره قطعاً سهلة، ربما حفظتها لجودتها من أول وهلة.

فلم أعلقها في دفتر اعتماداً على الحفظ مني، ولم أدر أن الأيام وشواغلها تنفرها عني.

ثم وقفت له بمكة على قصيدة فتعلقت بها وجعلتها من المعلقات، وأنا من عهدها شغفٌ بترديدها حرصاً على تذكر تلك العلاقات.

والقصيدة هي هذه، قالها في مدح الشريف أحمد، وأخيه الشريف سعد ابني زيد، وهما بدار الخلافة:

خليليّ إيهٍ عن حديث صَبا نَجْدٍِ ... وإن حركت داءً قديماً من الوَجْدِ

فآهاً على ذاك النَّسِيم تأسُّفاً ... وآهٌ على آهٍ تروِّح أو تُجْدِي

عليلةُ أنْفاسٍ تُصِحُّ نفوسَنا ... مُعطَّرةُ الأرْدانِ بالشِّيح والرَّنْدِ

وهيهاتَ نجدٌ والعُذَيْب ودونَه ... مَهامهُ تغوى الكدر فيها عن الوِرْدِ

ومن كل شمَّاخِ الأهاضبِ خالَط السَّ ... حابَ يرومُ الشمسَ بالصدِّ والرَّدِّ

وتسْرِي الصَّبا منه فتُمسِي وبيننا ... من البَوْنِ ما لبين السَّماوةِ والسِّنْدِ

هذا في المبالغة وقول ابن عنين رفيقا عنان.

وقوله هو:

سامحتُ كُتْبَك في القطيعةِ عالِماً ... أن الصحيفةَ لم تجدْ من حاملِ

وعذَرتُ طَيْفَك في الوصولِ لانه ... يغْدو فيصبح دوننا بمَراحلِ

ولا أقول ما قال ابن بسام: لقد شنع وبشع أبو زيد في الكذب، حيث قال:

وشِمْتَ سيوفَك في جِلَّقٍ ... فشامتْ خُراسانُ منها الحيَا

وبعد وبدع مهلهل، حيث قال:

ولولا الريحُ أسمَعَ من بُحْجرٍ ... صليلُ البَيض تُقرَعُ بالذُّكورِ

لأن الصبا قد تتخلف لهبوب غيرها أيلاماً فبيت ابن عنين كذبه ولاضح، وللعذر فاضح.

والبيت الذي نحن فيه منشيه موصون بصدق المقال، ومنشده مستريحٌ من حمل الأثقال.

سقا اللهُ من نجدٍ هضاباً رياضُها ... تنفَّس عن أزْكى من العَنْبَرِ الوَرْدِ

وحيَّى الحَيا حَيّاً نعِمْنا بظلِّه ... بنَعْمان ما بين الشَّبِيية والرِّفدِ

نُغازِل غِزْلانا كوانِس في الحشَى ... أوانسَ في ألْحاظها مَقْنِصُ الأُسْدِ

تُحاكِي الجَوارِي الكُنَّسَ الزُّهْرَ بَهْجةً ... وتفضُلها في رفعةِ الشأن والسَّعدِ

حِجازيَّةُ الألْفاظِ عُذريَّة الهوى ... عراقيَّة الألْحاظ ورديَّة الخدِّ

بعيدةُ مَهْوَى القُرْطِ معسولةُ اللَّمَى ... مُرهَّفةُ الأجفانِ عَسَّالةُ القَدِّ

تَمِيسُ وقد أرْخَتْ ذوائبَ فَرْعِها ... فتخْطُر بين الْبَانِ والعلَم الفَرْدِ

وتعْطُو بجِيدٍ عطَّل الْحَليُ حسنَه ... كأن ظَبْيةٌ تعْطو إل رَيِّقِ المردِ

وكم ليلةٍ باتتْ يَداها حمائلِي ... وباتتْ يدي من جِيدها مَطْرَح العِقدِ

ندير سُلافاً من حديث حَبابِها ... على حين تَرْشافٍ ألَذَّ من الشُّهْدِ

ولمَّا تمطَّى الصبحُ يطلُب علْمنَا ... تكنَّفَنا ليلٌ من الشَّعَرِ الجَعْدِ

عفِيفيْن عمَّا لا يليق تكرُّما ... على كا بنا من شدةِ الشوقِ والوَجْدِ

وقد كاد يسعى الدهرُ في شَتِّ شَمْلِنا ... ولكن توارَى شفْعُنا عنه بالفَرْدِ

فأصبحتُ أشكو بَيْنَها وفِراقَها ... بشَطِّ النوى شكوَى الأسيرِ إلى القِدِّ

<<  <  ج: ص:  >  >>