قدمت كتابي إلى الحضرة، ينهي إلى مولاي أن شوقي إلى مرآه البهي، ومحياه السني، شوق الغريب إلى الوطن، والنازح إلى السكن.
والمهجور إلى العتاق، والممنوع عن الكاس الدهاق.
والصديان إلى الماء القراح، والحيران إلى تبلج الصباح.
ويحدثه أني من بينه فقيد الجلد، عميد الخلد، جديد الكمد، بالي الصبر والجد.
يهزني إليه الأصيل، ويبكيني مباسم البرق الكليل، ويشجوني نوح الحمام على الهديل.
وأني لاأزال من فراقه متلفعا بأبراد الضنى، متعلقاً بأذيال المنى، لا يجمعني والسلوان فنا، ولا يفرق بيني وبين الأسف إلا القرب واللقا.
ما بِدْعةٌ إن جَرَّ حَيْنِي ... جَزَعِي وأجْرى المقُلتَيْنِ
أمسيْتُ في الليلِ البَهِي ... م أعُضُّ أطْرافَ اليديْنِ
طال النَّوَى والليلُ طا ... لَ وبِتُّ أرْعَى الفَرْقَدينِ
ولقد شجانِي ما شجَا ... قلبي هَدِيلُ حمامتيْنِ
يتناوَحان فيُفْرحا ... ن جوانِحي بالنَّغْمتيْنِ
ما ناحَتا إلاَّ ومِلْ ... تُ تمايلُ الرُّمْحِ الرُّدَيْنِي
أبكَى بُكاؤُهما العيو ... نَ وما أسالاَ عَيْنَ بَيْنِي
جَمدت عيونُهما فقُلْ ... تُ إليكُما عَبَراتِ عَيْنِي
وسمحْتُ بالدمعِ الغزي ... رِ وبُحْتُ بالسرِّ المصونِ
لم يُبْكنِي سَفْحُ العُذَيْ ... بِ ولا رُسومُ الرَّقْمَتَيْنِ
لكنْ فِراقُ مُهذَّب الْ ... أخلاقِ هَيْنِ الطبعِ لَيْنِ
لِفراق عبد الله هِمْ ... تُ تشوُّقاً وهَمتْ عُيونِي
ولعمري لولا علمي أن رأفة سيدي بولده، وعطفه على بضعة جسده، وفلذة كبده، قد فضل كل برٍ مألوف، وأربى على عطف كل أبٍ عطوف.
لأرخيت عنان القلم في ميادين الشكوى، ونشرت دفين الألم الذي عليه قد أطوى.
لكني زممت جناحه، وكسرت جناحه، وحظرت عليه مسرحه ومراحه.
فرقاً أن تألم نفس سيدي ومولاي، وإشفاقاً أن يلتاح قلبه من حراي.
وأمرته أن يرد فناء سيدي مسروراً فرحا، وأن يسحب ذيله في ساحته مرحا.
وينشر طلاقةً وبشرا، ويفتر بمبسم خريدة عذرا.
ملتثماً للأرض بين يديه، قاضياً بعض ما يجب من الثناء عليه.
إذ ليس بممكن أداء الثناء بوجهه، ولا بلوغ غايته وكنهه.
هيهات، هيهات، ذلك أعز من بيض الأنوق، وأبعد من العيوق، والأبلق العقوق.
غير أن الحياء من عظمة تلك العقوة، والجلال لأبهة تلك الربوة.
قد كسرت من نشاطه، لما ضربه بسياطه.
فلم يقدم إلا مدهوشا فشلا، منوصا ناصيته خجلا.
فها هو قد قدم ذلك الندى، وهو أحيى من هدى.
ها قد أتى يسحبُ أذْيالَ الخجلْ
يبسُط كفّاً للرجاء والأمَلْ
يسأل خيرَ الناس طُرّاً عن كَمَلْ
إسْبالَ أذْيالِ التَّغاضِي والكِلَلْ
عمَّا حَوَتْ من خطأٍ ومن خَطَلْ
فليصرف سيدي عن ذنبه صفحا، ويضرب عن تبعاته عفواً وصفحا.
فقد جاء متلفعاً بالمعاذير، معترفاً بالقصور لا بالتقصير.
وسيدي أكرم شنشنة، وأولى من ستر سيئة ونشر حسنه.
فلعل سيدي أن تغمض عيناه على قذى التغاضي، ويلاحظ بعين محبٍ راضي.
فإن الرضى عيونه عن العيوب حسيرة، كما أن عيون السخط بالعيوب بصيرة.
والكريم من أقال عثرات الكرام، واللئيم على هفوات المقترفين تمام.
والإنسان إلى شاكلته يجمح، وكل إناء بالذي فيه ينضح.
ما كريمٌ من لا يُقِيل عِثاراً ... لكريمٍ ويستُر العَوْراءَ
إنما الحُرُّ من يجُرُّ على الزَّلا ... تِ ذيلاً منه ويُغضِي حَياءَ
وأنا أسال الله أن يجمع الشمل عن كثب، ويبلغنا أقصى الأمنية وقصارى الأرب.
وأن يهدى إلى حضرة سيدي سلاماً لذيذ الورود، رقيق البرود، ألطف من ورد الخدود، وأحسن من رمان النهود.
وأعذب من ماء البارق، وأرق من فؤاد العاشق.
وأوضا من نور غيضة، وأبهى من بيضةٍ في روضة.
وأبهج من خريدةٍ مشنفة، في حبرات مفوفة.
وأنضر من الدهم المنوفة، والنمارق المزخرفة.
وأحلى من رشف الثغور، وأسنى من الدرر في نحور الحور.
سلامٌ لو تصور لكان مسكاً نافحاً، ونوراً لائحاً.