وثم رأيٌ يختفي منه في غمده السيف، وصدرٌ يسع رحلة الشتاء والصيف.
إذا سطا فالشهب من نصاله، وإذا فخر فالحمد أقل خصاله.
فلو راع الهضاب لأنحلت معاقدها، أو تناول السماء لخوت فراقدها.
إلى نعمٍ أنجدت على صدمات الزمان، واتخذت عقيدة الكرم كعقيدة الإيمان. فحضرته مقصد المنتاب، إذا حدت الحداة ذوات الأقتاب.
وله أدب راق ورق، وشعرٌ رقيقه لحر العقول استرق.
وقد وقفت له على ترجمة، ترجمه بها السيد محمد العرضي الحلبي، فلم أتمالك إلا أن ذكرتها.
قال فيها: ذو الجبين المستنير بالعرفان، إذا غدا غيره جهولاً مقنعاً بقناع الذل والهوان.
ماجدٌ احتبى بنطاق المجد كما احتبى السحاب ثهلان، وجواد أقسم جوده بيوم الغدير والنهروان.
فأقسم برب البدن تدمى منها النحور، إنه الوارث منه وقفة الحجيج والوفادة، وسقايتهم والرفادة.
وشهوده على ذلك منىً والمخيف، وصم الصفا والمعرف.
كما قال الشاعر الرضي:
له وَقفَاتٌ بالحَجيجِ شُهودُها ... إلى عَقِب الدنيا مِنىً والمُخَيَّفُ
ومن مَأْثُراتٍ غيرِ هاتيك لم تزَلْ ... له عُنُقٌ عَالٍ على الناس مُشْرِفُ
سار المذكور في أهل الحجاز بسيرة جده، من غير أن يغمد فيهم سيف حده.
ومما أنشدت له من شعر الملوك المحمود، وإن قيل: شعر الهاشمي لا يكاد يجود.
قوله في الاعتذار عن خضاب الشيب بالشباب المتلبس بالمعاد، والتسربل على موت الصبا بثياب الحداد:
قالُوا خضبْتَ الشّيْبَ قلتُ لهم نعمْ ... ما إن طمِعتُ بذاك في رَدِّ الصِّبا
لكنَّ عقلَ الشيبِ ما أحْرَزْتُه ... فخشيت أن أُدْعَى جَهولاً أشْيَبَا
السيد أحمد بن مسعود بن حسن نابغة السادة، ومن له في الفضل صدر الوسادة.
لم تنجب بمثله أم القرى، ولم تنضم على مثل وجوده الشريف العرى.
نفذ في العز نفوذ السهم، وبلغ العليا بمعراج الفهم.
وبرز في فرسان الكلام وشجعانه، وجاء من الشعر بما هو أنضر من عهد الصبا في ريعانه.
فلله ما أقوم نهجه، وأوثق نسجه.
وأسمح ألفاظه، وأفصح عكاظه.
وأحمد نظامه ونثاره، وأغنى شعاره ودثاره.
يجولُ بذهْنِه في كلِّ شيءٍ ... فيدركُه وإن عَزَّ المَرامُ
تطوف ببَيْتِ سُؤْددِه القوافِي ... كما قد طاف بالبيتِ الأنامُ
وتسجدُ في مَقامِ عُلاه شكراً ... ونعمَ الرُّكْنُ ذلك والمَقامُ
وكانت له همة تجاوز الأفق مصعداً، ولا ترضى إلا فلك الأفلاك مقعداً.
فلم يزل يقدر من نيل الشرافة ما أطال تعنيه، والأيام تعده بها وتمنيه.
فلم يظفر منها بلحظة لحظ، " وما يلقاها إلا ذو حظ ".
فاقتحم لطلبها بحراً وبراً، متوسعاً أينما حل رفاهيةً وبراً.
قال ابن معصوم: وكان قد دخل شهارة، من بلاد اليمن، وامتدح بها إمامها محمد بن القاسم، بقصيدة راح بها ثغر مديحه وهو ضاحكٌ باسم.
وطلب منه مساعدته على تخليص مكة المشرفة له، وإبلاغه من تحليته بولايتها أمله.
وكان ملكها إذ ذاك الشريف أحمد بن عبد المطلب، فأشار في بعض أبياتها إليه، وطعن فيها بسنان بيانه عليه.
ومطلع القصيدة:
سَلا عن دَمِي ذاتَ الخلاخلِ والعِقْدِ ... بماذا استحلّتْ أخْذَ رُوحي على عَمْدِ
فإن أمِنتْ أن لا تُقادَ بما جَنَتْ ... فقد قيل أن لا يُقْتَل الحرُّ بالعَبْدِ
منها، وهو محل الغرض:
أغِثْ مكةً وانْهَضْ فأنتَ مُؤيَّدٌ ... من اللهِ بالفَتْح المُفوَّضِ والجَدِّ
وقَدِّمْ أخا وُدٍ وأخِّرْ مُباغِضاً ... يُساوِر طَعْناً في المُؤيَّد والمَهْدِي
ويطْعن في كلِّ الأئمّةِ مُعْلِناً ... ويرْضَى عن ابن العاصِ والنَّجْلِ من هنْدِ
فلم يحصُل منه على طائل، إلاّ ما أجازه به من فضل ونائل.
فعاد إلى مكة المشرفة، ثم توجه إلى الروم.
قلت: فمر على ساحل الشام، ونزل طرسوس، وبها عمل سينيته التي زفها خريدةً على أرائك الطروس، وعطر برياها أندية الأدب ولا عطر بعد عروس.
وكان هام بالوطن، هيام ابن طالب بالحوض والعطن.
وحن إلى تلك البقاع، حنينه إلى أثلاث القاع.
والقصيدة هي هذه، وإنما ذكرتها بتمامها لمكانتها من القلوب: