للهِ يومٌ بحَمّامٍ نَعِمْتُ بهِ ... والماءُ من حَوْضِه ما بَيْننا جَارِ
كأنَّه فوق مِسْقَاةِ الرُّخَامِ ضُحىً ... ماءٌ يسيِلُ على أثْوابِ قَصَّارِ
بأن قائله عيب فيه، حتى قال بعضهم:
وشاعرٍ أُوقِد الطَّبْعُ الذَّكِيُّ له ... فكاد يحْرِقه مِن فَرْطِ لأَلاَءِ
أقام يُعْمِلُ أيَّاماً رَوِيَّتَه ... وشَبَّهَ الماءَ بعد الجَهْدِ بالْماءِ
ثم قال: وقد يوجه بأن هذا الشاعر شبه الرخام في الحمام بشقة قصار بيضاء، جرى عليها الماء، ولم يرد تشبيه الماء، ولكن ما ذكر في الطرفين جاء بارداً، فأشار الشاعر إلى برودته بما ذكر.
قلت: وقوله: شبه الماء إلخ قد تلاعبت به الشعراء، وتظرفوا فيه، ونقلوه إلى معانٍ لطيفة، فمنهم الشهاب الحجازي، حيث قال:
أقول شَبِّهْ لنا جِيدَ الرَّشَا تَرَفاً ... يا مُعْمِلَ الفِكْرِ في نظمٍ وإنْشاءِ
فظَلَّ يُعْمِل أيَّاماً قَرِيحَتَهُ ... وشَبَّهَ الماءَ بعد الجهْدِ بالماءِ
ومنهم الصلاح الصفدي، حيث قال:
أقول شَبِّهْ لنا كأساً إذا مَزَجَ السَّ ... اقِي طِلاهَا اهْتَدَى في لَيْلِهِ السَّارِي
فظَلَّ يُجْهِدُ أيَّاماً قَرِيحَتَهُ ... وشَبَّهَ النارَ بعد الجَهْدِ بالنَّارِ
وله:
أتى الحبيبُ بوَجْهٍِ جَلَّ خالقُهُ ... لَمَّا بَراه بلُطْفٍ فِتْنةَ الرَّائِي
فَلاح شَخْصُ عَذُولِي فوقَ وَجْنَتِهِ ... فقلتُ شَبِّهْهُ لي في فَرْطِ لأْلاَءِ
فظَلَّ يُجْهِد أيَّاماً قَرِيحَتَهُ ... وفَسَّر الماءَ بعد الجَهْدِ بالْماءِ
ومن نوادره ما ذكره في آخر كتابه الخبايا، قال: واتفق في عهدنا، أن قاضياً في بلاد الروم أخطأ في ثبوت شهر رمضان والعيد، خطأ ما مثله من مثله ببعيد.
فضج الناس واستغاثوا من حياته بمماته، ولم يسترح أحدٌ في ذلك الوقت غير الملائكة الكاتبين لحسناته.
إذ كسر طوق الهلال من جيد الدهر، ونقص من شهرٍ ما زاد في شهر.
وسرق العيد، واختلس برده الجديد.
كأن العيدَ أموالُ اليتَامى
فقتل جبين الهلال من غير غرة، وسلخ ذلك الشهر سلخاً بلعن من غره.
فلما اسودت الشمس كمداً بالكسوف، وتوارى القمر خلف مجنها خوف الحتوف، قال العيد: الله أكبر، على من طغى وتجبر.
وجاء شوال باكيا، ورفع رقعةً للمليك شاكيا:
قِصَّتي قد أتتْ إماماً هُمامَا ... تشْتكي الظُّلْمَ حين صرتُ مُضامَا
رُقعةٌ في يدِ المَلِيك طَواهَا ... ليَراها المليكُ في العزِّ دَامَا
أنا شَوَّالُك الفقيرُ الذي قد ... خُصَّ بالعِيدِ والصَّلاةِ دَوَامَا
بعد شهرِ الصيامِ قد زُرْتُ قوماً ... جائعاً أبْتغِي بهم إكْرامَا
ولِيَ العِيدُ حُلَّةٌ وهِلالِي ... لِيَ طَوقٌ من فوق جِيدٍ تَسامَى
رمضانُ اعْتدَى عليَّ وأمْسَى ... غاضِباً ذاك لا يخافُ مَلامَا
أخْتشِي ذَبْحَةً بنَصْلِ هِلالٍ ... ثم سَلْخاً له وتَرْكِي المُقامَا
لا تُضَيِّع حَقِّي بشاهدِ زُورٍ ... هو أعْمَى بَصِيرةٍ أو تَعامَى
جَبْهةَ الشَّاهِدِ اكْوِهَا فهْو وَسْمٌ ... لِكَذُوبٍ عن زُورِهِ ما تَحامَى
إن كَيَّ الخُسوفِ للشمسِ ظُلْمٌ ... وكذا الدهرُ لم يزَلْ ظَلاَّمَا
وكتب لرئيسٍ كان يمزح باليد: سيدي إن كان فيه دعابة؛ فراية مجده لم تر إلا في يمين عرابة.
وإن فرط منه للمحافظة باللطام، فلطمه لطمة ابن جدعان ويفتقر لطم كفٍ يفيض بالإحسان والإنعام.
ابن جدعان، هو عبد الله بن جدعان بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة، سيد قريش في الجاهلية، وفي داره حلف الفضول المشهور في السير.
وكان قد أسرف في جوده لما كبر فأخذت بنو تيم على يده، ومنعوه أن يعطي من ماله شيئاً، فكان يقول لمن أتاه: ادن مني. فإذا دنا منه لطمه، ثم يقول: اذهب فاطلب القصاص مني أو يرضيك رهطي.