(ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن يضل من يشاء ويهدي من يشاء ولتسألن عما كنتم تعملون) (٩٣)
المعنى الإجمالي:
لما ختمت الآية السابقة بـ (وليبينن لكم يوم القيامة ما كنتم فيه تختلفون) بينت هذه الآية أن هذا الاختلاف مقصود ليعاقب الخاطئ على خطيئته، ويكافأ المحسن على إحسانه، ولذا فليحذر الذين ينقضون عهودهم.
فلو شاء الله - سبحانه وتعالى - لجعل الناس متفقين على الهدى، ليس فيهم عاص، ولكن الله - سبحانه وتعالى - أعطى الإنسان حرية الاختيار، وبين له طريق الخير والشر، فمن سلك طريق الشر فسوف يعاقب على ما فعل؛ لأنه اختياره، ومن اختار طريق الخير فسوف يكافأ على إحسانه؛ لأنه اختياره.
المعنى التفصيلي:
- هذه الآية تفصيل لحقيقة الاختلاف الواقع في دين الله - سبحانه وتعالى - لما سبق من ختم الآية السابقة بـ (وليبينن لكم يوم القيامة ما كنتم فيه تختلفون).
أي: احذروا فإن الله سيبين ما كنتم فيه تختلفون، وبيان ما كانوا فيه يختلفون يكون في الآخرة بالنعيم في الجنة أو العذاب في النار. وبعد هذا الجزاء الفصل لا يبقى أمر إلا قد بان وظهر على حقيقته.
ولا بد من العلم أن هذا الاختلاف مقصود، فإن من ضل فإنما ضل باختياره، ومن اهتدى فإنما اهتدى باختياره، ولأن الأمرين بالاختيار؛ فإن الفاعل سيلقى جزاءه خيرا أو شرا، وهذا زيادة في التهديد والوعيد، أي: فمن نقض العهد فإنما ينقضه باختياره، ولذا فإن له الجزاء الشديد على فعله واختياره.
- قيل في بيان المناسبة بين هذه الآية وما قبلها:
١ - للتنبيه على أن اختلاف الدين لا يسوغ نقض العهود.
٢ - لئلا يظن ظان أن قدرة الله - سبحانه وتعالى - منحصرة في الآخرة فقط، فجاء التنبيه على قدرته في الدنيا.
وما ذكر من أن الآية تفصيل لحقيقة الاختلاف الواقع في دين الله - سبحانه وتعالى - أظهر من هذين القولين؛ لما سبق من ختم الآية السابقة بـ (وليبينن لكم يوم القيامة ما كنتم فيه تختلفون)، فتأمل بارك الله فيك.
- (ولو) حرف امتناع لامتناع، أي: امتناع وجود الجواب لا متناع وجود الشرط، وأضرب مثلا ليقرب الأمر إلى الأذهان، نقول: لو جئت لأكرمتك.
والنتيجة أني لم أكرمك لأنك لم تجئ، فامتنع الإكرام لامتناع المجيء. (ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة) ولكن لم يصبح الناس أمة واحدة على التوحيد والدين الحق؛ لأن الله - سبحانه وتعالى - شاء أن يعطي الاختيار للناس حتى يختاروا هم ما يريدون.
- (لجعلكم أمة واحدة) "اللام" في (لجعلكم) واقعة في جواب "لو"، و"الجعل" هو تقدير الله سبحانه أن يخلق الناس مثل الملائكة بأن يطيعوا ولا يعصوا.
- (أمة) والأمة: مجموعة كبيرة من الناس يجمعهم شيء يميزهم عن غيرهم، كاللغة أو الدين أو غير ذلك، والأمة في هذه الآية هم أمة يجمعهم توحيد الله وطاعته، وانظر في تفسير الآية السابقة إلى معنى الأمة، فإني بينت ذلك في قدر ما رأيته مناسبا.
- (واحدة) جاء نعت الأمة بكونها واحدة؛ لنفي أي فرقة بينها.
- (ولكن يضل من يشاء ويهدي من يشاء) أي أن الله - سبحانه وتعالى - هو من يضل من يشاء لاستحقاقه الضلال، ويهدي من يشاء لاستحقاقه الهدى؛ قال تعالى ( ... فمنهم من هدى الله ومنهم من حقت عليه الضلالة ... ) (النحل: ٣٦)
وظاهر الآيات الواردة في الهداية والإضلال أن فاعل (يشاء) يعود على الله سبحانه وتعالى.
- يتسأل بعض الناس عن التوفيق بين أن الله - سبحانه وتعالى - هو الذي يضل ويهدي، وبين أنه يعاقب الضال ويكافئ المهتدي، فلماذا يعاقب الضال رغم أنه أضل، وكذلك المهتدي سيق إلى الهداية؟
والجواب عن هذا أن من المسلم به أن كل شيء في هذا الوجود لا يكون إلا بمشيئة الله سبحانه وتعالى، وشاء الله أن يعطي الإنسان حرية اختيار دينه، قال تعالى (ونفس وما سواها (٧) فألهمها فجورها وتقواها (٨) قد أفلح من زكاها (٩) وقد خاب من دساها (١٠)) (الشمس)
فما اختاره الإنسان من الهداية أو الضلال إنما هو باختياره، ولكنه ضمن مشيئة الله - سبحانه وتعالى - من جهة أن الله شاء أن تكون للإنسان القدرة على الاختيار.
فالله يضل من اختار الضلال، ويهدي من اختار الهداية، ولذا يعاقب الضال على اختياره، ويكافأ المهتدي على اختياره.
ومن هنا، فالهداية باب من يطرقه يفيض الله عليه منها دون تحصيل بالأسباب، بل برحمته سبحانه وتعالى، قال تعالى ( ... ويهدي إليه من ينيب) (الشورى: ١٣) أي من يقبل على الهداية يهديه الله، وقال تعالى (ويزيد الله الذين اهتدوا هدى ... ) (مريم: ٧٦) وقال تعالى ( ... إنهم فتية آمنوا بربهم وزدناهم هدى) (الكهف: ١٣) فالفتية آمنوا واهتدوا ولأجل هذا جاءهم فيض الهداية الرباني.
وكذلك من اختار الضلالة مد الله له فيها؛ قال تعالى (قل من كان في الضلالة فليمدد له الرحمن مدا ... ) (مريم: ٧٥)
- (ولتسألن) الواو للعطف، واللام للقسم، والنون للتوكيد، واللام والنون دلا على القسم المحذوف.
- (ولتسألن) والسؤال سؤال محاسبة وجزاء، لا سؤال استفهام واستعلام.
- (عما كنتم تعملون) (عما)، أي: "عن ما"، و"ما" اسم موصول، والاسم الموصول من صيغ العموم، أي سيحاسبنا الله - سبحانه وتعالى - على كل ما عملنا من خير أو شر.
- والقسم على أن الخلق سيحاسبون مع التأكيد بنون التوكيد، زيادة في التهديد والوعيد لمن نقض العهد.
- جاء التهديد في هذه الآية لمن نقض العهد بأمور:
الأول: التذكير بأن نقض العهد من اختيار العباد، وكل عليه أن يتحمل نتيجة اختياره.
الثاني: أن الله - سبحانه وتعالى - أقسم بمحاسبة العباد على ما عملوا في الدنيا من الأعمال.