للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

(ولا تشتروا بعهد الله ثمنا قليلا إنما عند الله هو خير لكم إن كنتم تعلمون) (٩٥)

المعنى الإجمالي:

ما زال السياق سياق تحذير من نقض العهود، وجاءت هذه الآية للتحذير من نقض العهود المبرمة مع الله سبحانه وتعالى.

تنهانا هذه الآية أن ننقض عهودنا مع الله - سبحانه وتعالى - مقابل عرض من الدنيا زائل؛ فإذا كنا نعلم هذا الأمر ونلتزم به، فما أعده الله لنا هو خير من الدنيا.

المعنى التفصيلي:

- لماذا جاء الأمر بالوفاء بعهد الله في الآية (٩١) (وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ... ) ثم جاءت هذه الآية تنهى عن نقض العهود مع الله سبحانه وتعالى؟

يجب أن نعلم أن موضوع الآيتين التفصيلي مختلف، فالآية الأولى تأمرنا أن نفي بعهدنا مع الله أولا، وأن نفي بعهودنا مع الناس ثانيا؛ إذ كيف نحلف بالله - سبحانه وتعالى - ونجعله ضامنا ونخلف؟!! ولذا فإن من نقض فإن له العذاب على كل ما فعل؛ لأنه لا يغيب عن الله - سبحانه وتعالى - شيء.

بينما هذه الآية تنهانا أن ننقض عهودنا مع الله - عز وجل - مقابل عرض حقير من دنيا زائلة، والمعنى المختلف في هذه الآية هو تحقير أي عرض يكون ثمنا لنقض العهد مع الله سبحانه وتعالى؛ لأن ما عند الله خير من الدنيا وما فيها.

- (ولا تشتروا) نهي عن نقض عهد الله - سبحانه وتعالى - مقابل عرض من الدنيا، وجاء التعبير بالشراء من باب الاستعارة.

- (بعهد الله) العهد في اللغة يرجع إلى معنى الاحتفاظ، وبصيغة أخرى، معنى "العهد" في الآية هو: الموثق.

- (بعهد الله) إما أن يكون به المراد كل العهود، وإما أن يكون المراد ما يعاهد الله عليه، فإن كان المراد به كل العهود فإن إضافة "العهد" إلى لفظ الجلالة "الله" إضافة تعظيم؛ رفعا لشأن العهد، وإعلاما بأنه ذو قدسية؛ لأن المسلم إذا عاهد فإنما يعاهد بصفته مسلما منتميا لدين الله سبحانه وتعالى، ومن هنا جاءت نسبة "العهد" إلى الله.

وعندما يكون المراد كل العهود، يكون للعهد صور كثيرة، فالوفاء بما ألزمه المسلم على نفسه من توحيد الله من صور الوفاء بالعهد، ووفاء الصحابة ببيعة النبي - صلى الله عليه وسلم - كذلك، ووفاء الناس بما تعاهدوا عليه من شؤونهم من صور الوفاء بالعهد.

- وإن كان المراد (بعهد الله) ما يعاهد الله عليه، فيكون "عهد الله" خاصا بالعهد المعقود مع الله، وتكون الإضافة من باب الإضافة إلى المفعول.

ولقد تتبعت مادة "عهد" في القرآن فوجدت كثيرا من الآيات لا تدل دلالة واضحة على معنى "عهد الله"، بل تحتاج إلى آيات أخرى أو قرائن أخرى لتحديد المعنى.

وإن كنت أميل إلى أن "عهد الله" هو ما يعاهد الله عليه، وقد سبق بيان هذا بالشواهد القرآنية عند تفسير الآية (٩١) من هذه السورة.

- (ثمنا) والثمن لا يجهل معناه أحد، ولزيادة البيان، فكل عوض يحصل عليه البائع يسمى ثمنا.

والثمن في هذه الآية هو: ما يحصل عليه ناقض العهد من المكاسب الدنيوية.

- (قليلا) ليس تقييدا للثمن، أي: ليس النهي عن نقض العهد مقابل الثمن القليل فقط، وأما الكثير فغير داخل تحت النهي، وإنما (قليلا) وصف لكل ثمن يحصل عليه ناقض العهد؛ لأن كل ما في الدنيا زائل.

- (إنما عند الله هو خير لكم إن كنتم تعلمون) لم تعطف الجملة على ما سبقها؛ لأن الجملة الأولى (ولا تشتروا بعهد الله ثمنا قليلا) إنشائية، والجملة الثانية (إنما عند الله هو خير لكم إن كنتم تعلمون) خبرية، وهذا يسمى في علم المعاني بـ "كمال الانقطاع".

- (إنما عند الله هو خير لكم إن كنتم تعلمون) هذه الجملة تعليل لوصف أي عرض في الدنيا بالقلة، بأن أي ثمن قليل أمام ما عند الله سبحانه وتعالى؛ لأن ما عند الله هو الخير، ولا خير مثله البتة.

- (إنما) هي مكونة من حرف "إن" والاسم الموصول "ما"؛ وإنما كتبت في المصاحف متصلة بناء على النطق، ويكتب الاسم الموصول - في العصر الحاضر - منفصلا عن حرف التوكيد.

- (عند الله هو خير لكم) أي ما ادخره الله وأعده من الأجر والثواب في الآخرة خير لكم من أي عرض في هذه الدنيا، وكذلك فإن نعم الدنيا تدخل ضمن دلالة قوله تعالى (عند الله هو خير لكم)؛ لأن كل ما يصيبنا من النعم في الدنيا والآخرة فإنما هو من عند الله سبحانه وتعالى.

- (عند الله هو خير لكم) جاء ضمير الفصل (هو) للتخصيص، أي ما عند الله وحده خير لكم.

- (خير) اسم تفضيل، ولكن حذفت منه الهمزة "أخير"؛ لكثرة الاستعمال، ويجوز إثباتها على الأصل، وذلك قليل.

- (لكم) الكلام مفهوم بدون (لكم)، فتأمل - حفظك الله - نص الآية بدون (لكم)، ستجد بأن الكلام مفهوم، ولكن (لكم) أضافت دلالة جديدة، وهي: زيادة الحث على الوفاء بالعهود.

- (إن كنتم تعلمون) وما أعده الله في الآخرة خير لنا، ولكن هذه الخيرية مشروطة بكوننا نعلم هذا ونلتزم به، أما إذا لم نلتزم بالوفاء بعهد الله - عافانا الله - فإنه ليس لنا الخير في الآخرة. نسأل الله السلامة!

- هذه الآية أصل عظيم في النهي عن أخذ الرشوة مقابل معصية الله سبحانه وتعالى، وأصل عظيم - كذلك - في النهي عن كل معصية يفعلها العبد لأجل الحصول على مكسب دنيوي بخس.

<<  <   >  >>