(ينزل الملائكة بالروح من أمره على من يشاء من عباده أن أنذروا أنه لا إله إلا أنا فاتقون) (٢)
المفردات:
- الروح: هي الوحي: أي الدين الموحى به من عند الله.
المعنى الإجمالي:
بعد أن نزه الله سبحانه وتعالى ذاته عن الشريك في الآية السابقة، بين أن كل دعوة الأنبياء كانت إلى التوحيد.
وأن الله هو الذي أنزل الملائكة بالدين الذي هو حياة القلوب كما أن الطعام هو حياة الأبدان، ولهذا سمى الدين المنزل بالروح.
وبينت الآية أن هدف الدعوة إلى دين الله هو التزام العباد بالتقوى.
المعنى التفصيلي:
- جاء التعبير بـ (ينزل) بالتشديد، وليس " ينزل "؛ لأن السياق سياق إثبات للتوحيد، وإن من الأمور المثبتة لذلك هو تنزيل الملائكة بالوحي، فناسب التشديد أهمية ذكر الوحي في سياق إثبات الوحدانية لله.
أو لأن المقصود بإنزال الملائكة هو نزولها من بداية البشرية إلى وفاة رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم، فهو تنزيل عظيم على مدى هذه السنين الطويلة، فناسبه التشديد.
- جاء التعبير بالفعل المضارع (ينزل الملائكة)؛ لأن نزول الملائكة بالرسالات كان مستمرا حتى زمن نزول الآيات.
- قد يقال: إن الملك الذي ينزل بالوحي هو جبريل، فلماذا قيل (الملائكة) بالجمع علما أن جبريل عليه السلام مفرد؟
جاء ذكر (الملائكة) بالجمع؛ لأن الوحي قد يكون عن طريق جمع من الملائكة كما حصل لإبراهيم عليه السلام لما جاءه ضيفه من الملائكة (وبشروه بغلام عليم) (الذاريات: ٢٨).
- الروح تأتي بعدة معان، منها ما تكون الحياة به: (ويسألونك عن الروح) (الإسراء: ٨٥)، ومنها جبريل: (نزل به الروح الأمين) (الشعراء: ١٩٣)، ومنها الوحي: (وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان) (الشورى: ٥٢)
والمقصود بالروح في هذه الآية هو: الوحي.
والوحي قد يرد بعدة معان، فقد يراد به الإلهام (وأوحى ربك إلى النحل) (النحل: ٦٨)، أو تكليم الملك للنبي، ومنه يطلق الوحي على الموحى به، وقد يراد به الإشارة (فأوحى إليهم أن سبحوا بكرة وعشيا) (مريم: ١١).
و المقصود به هنا هو الموحى به من الدين؛ لأنه حياة القلوب كما أن الطعام حياة الأبدان.
- قيل (بالروح) وليس " بالأرواح "؛ لأن الدين من الله واحد، رغم تعدد الأنبياء، فهو دين إلهي واحد، ولا يصح أن يقال: الأديان السماوية، ومن هنا ناسب التعبير عن الدين الواحد بالمفرد (الروح).
- قيل: إن (من) في الآية تبعيضية أو لبيان الجنس، وقيل: هي بمعنى الباء، أي بأمره.
فالمعنى إذا كانت تبعيضية: ينزل الملائكة بالروح ببعض أمره.
وإذا كانت لبيان الجنس: ينزل الملائكة بالروح من جنس أمره.
وإذا كانت بمعنى الباء أي سببية: ينزل الملائكة بالروح بأمره.
ولكن هذه الآية جاءت في سياق إظهار أمر الله في إنزال رسالة التوحيد عبر ملائكته على أنبيائه عليهم الصلاة والسلام، وفي أمره باختيار من يبلغ التوحيد، وفي أمر الأنبياء والرسل أن يبلغوا التوحيد.
ولهذا قال تعالى (من يشاء من عباده) فأظهر المشيئة، ولو قال: على أنبيائه أو رسله، لدل على ذلك دون ذكر المشيئة، ولكن ذكر المشيئة مقصود في الآية؛ لإظهار مشيئة الله في إيصال عقيدة التوحيد لعباده.
وقال تعالى (أن أنذروا أنه لا إله إلا أنا) ليدل على أن إنذار الناس بالتوحيد كان أيضا بأمره.
ولهذا ناسب ذلك أن يكون معنى (من أمره) أي بسبب أمره، أي بأمره نزل الملائكة وبأمره اختير الأنبياء، وبأمره بلغ الناس، فأمره ظاهر في إرادة التوحيد من البداية إلى النهاية. والأمر هنا هو مفرد الأوامر، لا مفرد الأمور.
- (أن) من قوله (أن أنذروا) هي (أن) المفسرة، فحقيقة ما أنزل الله على عباده التوحيد، فما من نبي ولا رسول إلا وقد دعا إلى التوحيد، قال تعالى: (وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون) (الأنبياء: ٢٥).
- غاية معرفة رسالات الله هي: تقوى الله (أن أنذروا أنه لا إله إلا أنا فاتقون)
- في الآية التفات من الغيبة إلى الخطاب، تدبر معي قوله تعالى (ينزل الملائكة بالروح من أمره على من يشاء من عباده أن أنذروا أنه لا إله إلا أنا) حيث جاء النص بأسلوب الغيبة ثم جاء النص بالأمر بالتقوى ولكن بأسلوب الخطاب (فاتقون).
ودلالة هذا الالتفات من الغيبة إلى الخطاب هو إبراز أهمية التقوى؛ لأن إنزال الملائكة وبعث الرسل كله لأجل أن نتقي ربنا، فلا نشرك به شيئا ولا نعصيه، ولذا تغير الأسلوب؛ فإن من دلالات أسلوب الالتفات من الغيبة إلى الخطاب إعلاء شأن موضوع الخطاب.