للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

(والله فضل بعضكم على بعض في الرزق فما الذين فضلوا برادي رزقهم على ما ملكت أيمانهم فهم فيه سواء أفبنعمة الله يجحدون) (٧١)

المفردات:

- رادي رزقهم: معطي ما يملكون.

- ملكت أيمانهم: عبيدهم وإماؤهم.

- يجحدون: أي ينكرون ما يعرفون ثبوته.

المعنى الإجمالي:

وتتابع الآيات بيان وحدانيته سبحانه وتعالى عن طريق ضرب المثل؛ ليقيس عليه أصحاب العقول.

فالله سبحانه وتعالى فضل بعض البشر على بعض بالرزق، فمنهم الغني ومنهم الفقير، ومنهم السيد ومنهم العبد، وهذا التفضيل ليس خاضعا لإرادتهم، بل هو وفق إرادة الله سبحانه وتعالى وحده.

وبناء على أن الله سبحانه فضل بعضنا على بعض في الرزق، فإن الذين أغناهم الله لن يعطوا عبيدهم ما لديهم من ممتلكاتهم حتى يصبح عبيدهم أغنياء مثلهم.

فإذا كان المشركون لا يرضون أن يصبحوا وعبيدهم سواء، فكيف يرضون أن يجعلوا الخالق سبحانه وتعالى والمخلوقين سواء، فيشركوا مع الله جل جلاله؟!!

المعنى التفصيلي:

- (والله فضل بعضكم على بعض) الواو واو العطف، ومعنى العطف هنا، أن الله سبحانه هو المتصرف بالخلق والإماتة والرد إلى أرذل العمر، وكل هذا يقع قهرا عن البشر، وهو أيضا أعطى بعض البشر من الرزق أكثر من الآخرين، وهذا التفضيل - أيضا - ليس وفق هوى البشر وإرادتهم، بل هو قهر وجبر عليهم.

ومن مظاهر جبرية الرزق أنه قد يكون الجهول غنيا والعالم فقيرا.

قال ابن الوردي في لاميته المشهورة:

كم جهول بات فيها مكثرا ... وعليم بات منها في علل

كم شجاع لم ينل فيها المنى ... وجبان نال غايات الأمل

فاترك الحيلة فيها واتكل ... إنما الحيلة في ترك الحيل

فكم ممن اتخذ أسباب الرزق ولكن الله ضيق عليه، وكم ممن تخبط في طلب الرزق تخبطا دون أسباب منطقية، ولكن الله وسع عليه؛ لأن الله هو من قسم الرزق سبحانه، قال تعالى (أهم يقسمون رحمت ربك نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضا سخريا ورحمت ربك خير مما يجمعون) (الزخرف: ٣٢)

- (والله فضل) أي هو وحده سبحانه وتعالى فضل بعضكم على بعض في الرزق، فكيف تشركون بالله سبحانه وهو المنعم وحده؟!

ولو قلنا في غير التنزيل "وفضل الله" لما أفادت ما أفادته الآية من التعظيم لقدرة الله سبحانه وتعالى، ومن تخصيص تفرده بالتصرف بالتفضيل، وأنه ليس له شريك سبحانه.

- (والله فضل بعضكم على بعض في الرزق) وهذا التفضيل ليس تفضيلا مطلقا، بل هو تفضيل في شيء خارجي، لا أثر له في قيمة المرء أو قدره عند الله سبحانه وتعالى، فهؤلاء الكفار اعترضوا على بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - لأنه ليس من الأغنياء (وقالوا لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم) (الزخرف: ٣١)، فأنكر الله عليهم اعتراضهم بقوله:

(أهم يقسمون رحمت ربك نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضا سخريا ورحمت ربك خير مما يجمعون (٣٢) ولولا أن يكون الناس أمة واحدة لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفا من فضة ومعارج عليها يظهرون (٣٣) ولبيوتهم أبوابا وسررا عليها يتكئون (٣٤) وزخرفا وإن كل ذلك لما متاع الحياة الدنيا والآخرة عند ربك للمتقين (٣٥)) (الزخرف).

فالتفضيل ليس بناء على الرزق، وإنما التفضيل في الرزق، والتفضيل في الرزق لا يلزم منه تفضيل المرء؛ لأن الرزق ابتلاء، وأما من يظن أن الغنى إكرام وقلة الرزق إهانة، فليعلم أن الله أبطل هذا بقوله:

(فأما الإنسان إذا ما ابتلاه ربه فأكرمه ونعمه فيقول ربي أكرمن (١٥) وأما إذا ما ابتلاه فقدر عليه رزقه فيقول ربي أهانن (١٦) كلا بل لا تكرمون اليتيم (١٧) (الفجر)

ومعنى (كلا) أي، ليس الأمر كما يظن الإنسان، فإن الإكرام بطاعة الله، والإهانة بمعصيته، وليس بالمال والغنى.

- (فما الذين فضلوا برادي رزقهم على ما ملكت أيمانهم) هذه الجملة تفرعت عن قوله تعالى (والله فضل بعضكم على بعض في الرزق)، أي أن الله سبحانه وتعالى فضل بعضكم على بعض في الرزق، فأنتم الآن متفاضلون فيه، وبناء على هذا التفضيل، فإن الذين فضلوا بالرزق لن يعطوا من لم يفضل بالرزق نصيبهم؛ ليصبح المفضل بالرزق وغير المفضل سواء، فكيف تسوون الله بعباده، وأنتم لا تحبون أن تستووا وعبيدكم؟! ولكن الأمر إنما هو جحود منكم بما أنعم الله عليكم من النعم (أفبنعمة الله يجحدون)؟!

- (فما الذين فضلوا برادي) فالفاء للتفريع، و"ما" نافية، والباء في (برادي) هي للتوكيد، وتأتي في خبر "ما" النافية وخبر "ليس".

- (فهم فيه سواء) هذه الجملة فرعت عن جملة (فما الذين فضلوا برادي رزقهم على ما ملكت أيمانهم) أي: لن يعطي أصحاب الأرزاق أرزاقهم لعبيدهم فيصبحوا فيه سواء.

- (أفبنعمة الله يجحدون) الهمزة في (أفبنعمة) للاستفهام، وهذا الاستفهام إنكاري، ومعناه: إنهم بمساواتهم الله بالأصنام يجحدون نعمة الله عليهم، إذ كيف لا يرضون أن يستووا مع عبيدهم، وبالمقابل يساوون بين الله المنعم سبحانه ومخلوقاته؟! فما هذا الشرك إلا جحود بنعمة الله.

- (أفبنعمة الله يجحدون) قدم ذكر "نعمة الله" على "يجحدون"،؛ وذلك لإبراز أن الإنكار متجه إلى كون الجحود متعلق بنعمة الله، وليس إلى مجرد الجحود فقط.

وانظر - بارك الله فيك - إلى الفرق بين قوله تعالى (أفبنعمة الله يجحدون) وبين قولنا في غير التنزيل "أفيجحدون بنعمة الله":

فقولنا في غير التنزيل "أفيجحدون بنعمة الله" يعني: إنكار الجحود بنعمة الله، بينما قوله تعالى (أفبنعمة الله يجحدون) يعني: إنكار الجحود بنعمة الله، ويعني شيئا آخر، وهو: أن نعمة الله دون غيرها من الأشياء ليست محل جحود بحال من الأحوال، ولا يتصور أن يكون الجحود بنعمة الله بشكل خاص، فكيف يجحد هؤلاء بنعمة الله، وذلك بإشراكهم مع الله سبحانه.

وهذا ما يعنيه تقديم "نعمة الله" على "يجحدون"، فالاستنكار منصب على كون الجحود متجها إلى نعمة الله التي لا يتصور إنكارها، لا إلى مجرد الجحود فقط.

- من المفسرين من قال: إن جملة (أفبنعمة الله يجحدون) متفرعة عن قوله تعالى (والله فضل بعضكم على بعض في الرزق)، أي أن الله أنعم على الكفار بالرزق ولكنهم عبدوا غيره وكفروا بنعمته.

وعلى هذا يكون قوله تعالى (فما الذين فضلوا برادي رزقهم على ما ملكت أيمانهم فهم فيه سواء) معترضا بين قوله تعالى (والله فضل بعضكم على بعض في الرزق) وبين قوله تعالى (أفبنعمة الله يجحدون).

ولكن الراجح أن قوله تعالى (أفبنعمة الله يجحدون) متفرع عن قوله تعالى (فما الذين فضلوا برادي رزقهم على ما ملكت أيمانهم فهم فيه سواء)، أي أن الله سبحانه وتعالى فضل بعضكم على بعض في الرزق، فأنتم الآن متفاضلون فيه، فإن الذين فضلوا بالرزق لن يعطوا من لم يفضل بالرزق نصيبهم؛ ليصبح المفضل بالرزق وغير المفضل سواء، فكيف تسوون الله بعباده، وأنتم لا تحبون أن تستووا وعبيدكم؟! (أفبنعمة الله يجحدون) بأن أشركوا مع الله غيره وكفروا بنعمته سبحانه وتعالى.

ولكن ما الدليل على أن الراجح أن قوله تعالى (أفبنعمة الله يجحدون) متفرع عن قوله تعالى (فما الذين فضلوا برادي رزقهم على ما ملكت أيمانهم فهم فيه سواء) وليس أن جملة (أفبنعمة الله يجحدون) متفرعة عن قوله تعالى (والله فضل بعضكم على بعض في الرزق)؟

الدليل هو أن سياق الآيات إنما هو سياق إنكار للشرك، ودعوة لتوحيد الله سبحانه وأنه المستحق للعبادة وحده - وارجع إن شئت لما سبق هذه الآية من الآيات ولما بعدها - والذي يناسب هذا السياق هو القول بأن موضوع هذه الآية (والله فضل بعضكم على بعض في الرزق فما الذين فضلوا برادي رزقهم على ما ملكت أيمانهم فهم فيه سواء أفبنعمة الله يجحدون) (النحل:٧١) إنما هو موضوع إنكار للشرك، ودعوة لتوحيد الله سبحانه وأنه المستحق للعبادة وحده.

والقول بأن موضوع الآية هو إنكار للشرك، ودعوة لتوحيد الله سبحانه وأنه المستحق للعبادة وحده يوجهنا إلى أن قوله تعالى (والله فضل بعضكم على بعض في الرزق) مسوق لأجل تقرير حقيقة وهي (فما الذين فضلوا برادي رزقهم على ما ملكت أيمانهم فهم فيه سواء) وبناء على هذه الحقيقة يأتي إنكار ما فيه الكفار من الشرك وأنه كفران بنعمة الله سبحانه (أفبنعمة الله يجحدون).

ولكن القول بأن جملة (أفبنعمة الله يجحدون) متفرعة عن قوله تعالى (والله فضل بعضكم على بعض في الرزق) تقتضي أن قوله تعالى (والله فضل بعضكم على بعض في الرزق) ليس مسوقا لأجل (فما الذين فضلوا برادي رزقهم على ما ملكت أيمانهم فهم فيه سواء)، مما يعني أن موضوع الآية هو التفضيل في الرزق، وأما موضوع إنكار الشرك فليس هو الموضوع الرئيسي في الآية، وهذا القول مخالف للسياق.

- (يجحدون) الجحود هو إنكار ما يعرف ثبوته، قال تعالى حاكيا حال فرعون وقومه في مقابلة معجزات موسى عليه السلام (وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا فانظر كيف كان عاقبة المفسدين) (النمل: ١٤) فهم استيقنوا أن هذه الآيات من الله سبحانه وتعالى، ولكن رغم معرفتهم هذه جحدوا بها.

- وجاء التعبير بالفعل المضارع (يجحدون) وليس بالماضي؛ لأن جحود الكفار متجدد لا يتوقف منذ ذلك الوقت وقبله وإلى الآن وبعد الآن.

- أخرت الكلام عن معنى الرزق؛ لأن بيان المعنى محتاج لتفسير الآية كاملة، وذلك حتى يتضح المراد جليا.

ومعنى "الرزق" في اللغة هو: ما ينتفع به من المال والطعام والجاه والعلم، ويقال للعطاء، دنيويا كان أم أخرويا؛ ولأجل هذا المعنى اللغوي قال بعض المفسرين بأن الجاه والعلم داخل ضمن مفهوم الرزق في هذه الآية.

ولكن المقصود به في هذه الآية هو الممتلكات المنقولة وغير المنقولة، ولا يدخل في ذلك الجاه والعلم؛ لأن الآية تتكلم عن شيء يستطيع الكفار رده على ما ملكت أيمانهم ولكنهم لم يردوه، لا لأنه شيء ليس بمقدور البشر رده، وإلا لما قامت الحجة عليهم، بل هو شيء بمقدورهم رده ولكنهم لا يريدون رده كي لا يتساووا وعبيدهم، وهذا ينطبق على الأموال المنقولة كالذهب والفضة، وغير المنقولة من البنيان والمزارع والأراضي وغيرها.

<<  <   >  >>