(شاكرا لأنعمه اجتباه وهداه إلى صراط مستقيم) (١٢١)
المفردات:
- اجتباه: اختاره.
المعنى الإجمالي:
ما زالت الآية تعرض عظيم صفات إبراهيم عليه السلام، فهو شاكر لنعم الله، والسبب في ما فيه إبراهيم - عليه السلام - من الفضل العظيم إنما هو بسبب اختيار الله - سبحانه وتعالى - له، وبسبب هدايته إلى طريق التوحيد والدين الحق.
المعنى التفصيلي:
- (شاكرا) صفة أخرى لإبراهيم عليه السلام، وهذا تعريض بالمشركين الذين سبق وصفهم بقوله تعالى ( ... فكفرت بأنعم الله ... ) (النحل: ١١٢)
- (لأنعمه) أي: لأنعم الله، و (أنعم) جمع نعمة، وقيل: جمع نعمى، وقيل: جمع نعم، وقيل غير ذلك.
- (أنعم) جمع قلة، ولكن لماذا جاء التعبير بجمع القلة، أليس التعبير بجنس النعم أعظم في بيان عظيم شكر إبراهيم عليه السلام؟
جاء التعبير عن النعم بجمع القلة؛ لأن إبراهيم - عليه السلام - مهما شكر فلن يسعه أن يشكر كل نعم الله سبحانه وتعالى، ألا ترى أن البشر لن يستطيعوا أن يحصوا نعم الله إحصاء، فكيف يمكنهم أن يشكروها كلها؟؟! (وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها إن الله لغفور رحيم) (النحل: ١٨) فنحن لا نستطيع أن نحيط بنعم الله بالعد والذكر، فكيف نستطيع أن نؤدي شكر ما لا نستطيع عده؟! ومن المسلم به أننا لا نستطيع، ولذا جاء ختم الآية بقوله تعالى (إن الله لغفور رحيم).
لكن لماذا لا يستطيع الإنسان أن يحيط بنعم الله؟
لا يستطيع الإنسان أن يحيط بنعم الله؛ لأنها كثيرة، فأهل الفلك يمضون العمر في استكشاف نعم الله علينا، وكذا أهل الجيولوجيا وأهل الطب وأهل التربية، وغيرهم كثير، وما يفهمه كل في تخصصه لا يحيط به الآخرون، وإنما يعرف الناس طرفا منه، وهذا فيما نعلم، فكيف بما لا نعلم، وما لا نعلمه أعظم، لأن علمنا في علم الله لا شيء، سبحانه وتعالى!
ويضاف إلى هذا بأن ما أوتي إبراهيم - عليه السلام - إلا جزءا يسيرا من نعم الله سبحانه وتعالى، فتأمل.
وقيل: جاء التعبير بجمع القلة؛ للإيذان بأن إبراهيم - عليه السلام - شاكر لما قل من النعم فكيف بكثيرها.
وهذا ضعيف؛ لأن من يشكر كثير النعم فبالأولى يشكر قليلها، ولكن لا يلزم من رجل يشكر الله على قليل النعم أن يقدر على شكره على كثيرها؛ فكم من فقير كان شاكرا في فقره فلما أغناه الله تكبر وتجبر وأغوته النعمة فنسي شكر الله.
- (اجتباه) جبى الشيء جمعه، والاجتباء الجمع عن طريق الاصطفاء؛ قال تعالى ( ... الله يجتبي إليه من يشاء ويهدي إليه من ينيب) (الشورى: ١٣) فاصطفاء الرسل لا يرجع إلى كسبهم، بخلاف الهداية التي تكون لمن قصدها.
- (وهداه) وللهداية عدة معان، أذكر منها:
الأول: الهداية الفطرية أو الغريزية أو ما كان في معناهما؛ قال تعالى (قال ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى) (طه: ٥٠)
الثاني: البيان عن طريق الأنبياء والدعاة، قال تعالى في شأن الأنبياء (وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا وأوحينا إليهم فعل الخيرات .... ) (الأنبياء: ٧٣) وقال تعالى في شأن الدعاة (وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون) (السجدة: ٢٤)
الثالث: التوفيق لمن اهتدى (والذين اهتدوا زادهم هدى وآتاهم تقواهم) (محمد: ١٧)
- (صراط مستقيم) وهو طريق التوحيد والدين الحق، روى أحمد في (مسنده ج١/ص٤٣٥) بسند حسن عن عبد الله بن مسعود قال خط لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خطا ثم قال: هذا سبيل الله. ثم خط خطوطا عن يمينه وعن شماله ثم قال: هذه سبل متفرقة على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه، ثم قرأ (وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ... ) (الأنعام: ١٥٣)
- لم يقع العطف بين (شاكرا لأنعمه) و (اجتباه وهداه إلى صراط مستقيم)؛ لأن الجملة الثانية بيان لسؤال ناشئ في الذهن: لماذا حاز إبراهيم - عليه السلام - على كل هذه الفضائل؟
فكان الجواب: لأن الله - سبحانه وتعالى - اختاره لرسالته ووفقه إلى الهدى وزاده منه زيادة جعلته إماما وقانتا و .. و .. .