(إنما جعل السبت على الذين اختلفوا فيه وإن ربك ليحكم بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون) (١٢٤)
المعنى الإجمالي:
بعد أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - باتباع ملة إبراهيم عليه السلام، تبين هذه الآية أن اليهود ليسوا على ملة إبراهيم؛ لأن تعظيم السبت ليس من ملة إبراهيم، وإنما فرض تعظيم السبت على اليهود الذي عظموه، والله - سبحانه وتعالى - سيحاسبهم يوم القيامة على ما صدر منهم من عصيان.
المعنى التفصيلي:
- (إنما جعل السبت على الذين اختلفوا فيه) أي: ما فرض السبت إلا على اليهود، وليس تعظيم السبت من ملة إبراهيم، وبهذا فليعلم اليهود أنهم ليسوا على ملة إبراهيم.
وجاء البيان بأسلوب القصر (إنما) ردا على من يعتقد أن اليهود على ملة إبراهيم عليه السلام.
- (جعل السبت) أي: يوما معظما، واليهود تعظم يوم السبت ولا تعمل فيه. وضمن (جعل) معنى: فرض؛ بدلالة (على الذين) أي: فرض على الذين.
وقيل: (إنما جعل السبت) أي وباله على الذين اختلفوا فيه فصادوا واستحلوه.
وهذا القول لا يناسب السياق؛ لأن السياق لا يتحدث عن عقاب بني إسرائيل بل يتحدث عن مخالفة بني إسرائيل لملة إبراهيم عليه السلام، وزيادة على هذا فإن السياق إذا انتظم دون تقديرات فلا داعي لها، لأن التقدير لا يقبل إلا عند الضرورة لانتظام الكلام، وهنا لا حاجة إليه.
- (الذين اختلفوا فيه) هم اليهود، ولكن بماذا اختلفوا؟
قيل: استحله بعضهم وحرمه بعضهم، وقيل: اختاروه بدل يوم الجمعة. والقول الثاني أقرب؛ لقول الرسول صلى الله عليه وسلم:
"نحن الآخرون السابقون يوم القيامة، بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا، ثم هذا يومهم الذي فرض عليهم فاختلفوا فيه، فهدانا الله، فالناس لنا فيه تبع، اليهود غدا والنصارى بعد غد" (صحيح البخاري ج١/ص٢٩٩)
واختلف العلماء في اختيار يوم الجمعة، هل وكل الله اختياره إلى اليهود والنصارى؟
وفي هذا الحديث الصحيح جواب على أنه فرض عليهم فأبوا أن ينقادوا لحكم الله؛ قال الرسول صلى الله عليه وسلم: " ثم هذا يومهم الذي فرض عليهم" (صحيح البخاري ج١/ص٢٩٩).
- وهناك تساؤل: هل كان يوم الجمعة معظما في ملة إبراهيم، علما بأن قوله صلى الله عليه وسلم " فهدانا الله، فالناس لنا فيه تبع" يدل على أن يوم الجمعة لم يكن معظما عند إبراهيم عليه السلام؟
والجواب عن هذا أن يوم الجمعة كان معظما عند إبراهيم - عليه السلام - للأمور التالية:
الأول: إن سياق الآيات يدل على أننا مأمورون باتباع ملة إبراهيم وأن اليهود ليسوا على ملة إبراهيم لأنهم عظموا يوم السبت، ويفهم من هذا أن تعظيم اليوم الأسبوعي هو من ضمن ملة إبراهيم، ونحن إذ نعظم يوم الجمعة فإننا نتبع ملة إبراهيم.
ومن هذا تعلم أن قول من قال: إننا لا نعلم هل كان يوم الجمعة معظما في ملة إبراهيم عليه السلام؟ من هذا نعلم أنه قول ليس صحيحا.
الثاني: يوم الجمعة يوم معظم من قبل بعث الأنبياء، فعن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "خير يوم طلعت عليه الشمس يوم الجمعة، فيه خلق آدم، وفيه أدخل الجنة، وفيه أخرج منها، ولا تقوم الساعة إلا في يوم الجمعة" (صحيح مسلم ج٢/ص٥٨٥)
أما قوله عليه الصلاة والسلام: " فهدانا الله" أي: باتباع ملة إبراهيم عليه السلام.
- (الذين اختلفوا فيه) جاء التعبير بالاسم الموصول (الذين) وليس بـ "بني إسرائيل" أو "اليهود"؛ وذلك تشهيرا بهم؛ لأنهم قوم عصاة، كأن المعنى "أولئك العاصون الذين عصوا الله فيما فرض عليهم من تعظيم الجمعة فعظموا السبت، إنهم ليسوا على ملة إبراهيم".
- (وإن ربك) (إن) للتأكيد، والتعبير بـ "الرب"يدل على العناية والرعاية، فلماذا التعبير به رغم أن السياق سياق حساب وتهديد لليهود؟
جاء التعبير بـ"الرب" لأن الرعاية والعناية هي للنبي صلى الله عليه وسلم، ولذا أضيف "رب" لكاف المخاطب العائد على النبي محمد - صلى الله عليه وسلم - من باب تكريمه وتأييده بأنه على الحق المبين.
- (ليحكم) اللام للتأكيد، وسبق التأكيد بـ "إن" لتهديد اليهود تهديدا شديدا، ولتأييد النبي - صلى الله عليه وسلم - تأييدا أكيدا.
- (يوم القيامة) والتعبير بـ (يوم القيامة) وليس "الآخرة"؛ للإشارة إلى أن الله سبحانه سيبعثهم، وسيقومون من قبورهم ليلقوا حسابهم؛ لأنهم ماتوا قبل سنين كثيرة.
- (فيما كانوا فيه يختلفون) أي في كل الذي كانوا فيه يعصون أمر الله سبحانه وتعالى، وليس في أمر السبت فقط، ولذا جاء التعبير بـ (بينهم)؛ لأنه كان في بني إسرائيل صالحين، والحكم سيكون في كل أمر اختلف فيه، فيلزم من وجود الصالحين وجود فريقين مخطئ ومصيب.
- لم تتعرض الآيات للنصارى؛ لأن النصارى تبع لليهود، فإذا لم يكن اليهود على ملة إبراهيم فالنصارى بالأولى.
ومن الأدلة على أن النصارى تبع لليهود أنهم يسمون أسفار اليهود بالعهد القديم والأناجيل بالعهد الجديد، ويطلقون على العهدين اسم " الكتاب المقدس"، بمعنى أن التوراة مقدسة عند النصارى.