(ويعبدون من دون الله ما لا يملك لهم رزقا من السموات والأرض شيئا ولا يستطيعون) (٧٣)
المعنى الإجمالي:
بينت الآية السابقة نعم الله التي يراها الكفار ويجحدونها، فهم يؤمنون بالباطل، ويكفرون بالله سبحانه، وزيادة على ذلك بدلا من أن يشكروا الله على نعمه فإنهم يشكرون أصنامهم، أي يشكرون غير المنعم سبحانه وتعالى (أفبالباطل يؤمنون وبنعمت الله هم يكفرون (٧٢) ويعبدون من دون الله ما لا يملك لهم رزقا من السموات والأرض شيئا ولا يستطيعون (٧٣))
فهؤلاء الكفار يعبدون الأصنام التي لا ترزقهم شيئا، لا من السماء كالمطر، ولا من الأرض كالزرع وغيره، ولا تستطيع أن ترزقهم في المستقبل شيئا؛ لأن الرازق لمن في السموات والأرض هو الله وحده.
المعنى التفصيلي:
- (ويعبدون من دون الله) الواو للعطف، أي: هم يؤمنون بالباطل، ويكفرون بالله سبحانه، وزيادة على ذلك يشكرون غير الله وهو المنعم سبحانه وتعالى.
- (ما لا يملك لهم رزقا) ومعنى "ما لا يملك رزقا" هو الأصنام؛ وذلك وفقا للسياق، لأن الآية تتكلم عن حال كفار قريش، و لكن اللفظ يعم كل ما يعبد من دون الله سبحانه من عاقل وغير عاقل.
وقد يقول قائل: كيف يعم اللفظ كل ما يعبد من دون الله من عاقل وغير عاقل، و (ما) لا تستخدم إلا لغير العاقل؟
والجواب عن هذا أن اللفظ يعم كل ما يعبد من دون الله سبحانه من عاقل وغير عاقل؛ لأنهما في الحكم سواء؛ فهما لا يملكان رزقا لأحد؛ لأن الرازق هو الله وحده ولا أحد معه، وما نراه من صور إعطاء البشر الرزق للبشر، فإنما هم نقلة ينفذون مشيئة الله سبحانه فيما قسم من الأرزاق، أما هم فلا يملكون من أمر الرزق في الحقيقة شيئا.
وأيضا فإن (ما)؛ تستخدم للعاقل أيضا، كما في قوله تعالى (فانكحوا ما طاب لكم من النساء) (النساء:٣)، وكما في قوله تعالى (وما أبرئ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي) (يوسف: ٥٣)
وتكون (ما) للعاقل، إذا اشترك العاقل وغير العاقل في حكم واحد، كما في قوله تعالى (ولله يسجد ما في السموات وما في الأرض) (النحل: ٤٩) فقد اشترك العاقل وغير العاقل في حكم السجود لله سبحانه.
- (ما لا يملك لهم رزقا) ومعنى (يملك) أي يقدر؛ قال تعالى:
(قل فمن يملك لكم من الله شيئا إن أراد بكم ضرا أو أراد بكم نفعا بل كان الله بما تعملون خبيرا) (الفتح:١١)
(قل فمن يملك من الله شيئا إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم وأمه ومن في الأرض جميعا) (المائدة: ١٧)
(قل أتعبدون من دون الله ما لا يملك لكم ضرا ولا نفعا والله هو السميع العليم) (المائدة: ٧٦)
- (ما لا يملك لهم رزقا) قد يقول قائل: لماذا التخصيص بالجار والمجرور (لهم)، ولو قلنا في غير التنزيل "ما لا يملك رزقا من السموات والأرض" بدون (لهم) لدل على أنهم لا يملكون أي رزق لأي أحد، فلماذا التخصيص؟
جاء التخصيص بالجار والمجرور (لهم)؛ لأن الآية رد على الكافرين الذين يعبدون دون الله؛ ولذا ناسب التخصيص زيادة في بيان خطئهم؛ وفي نفي ملك المعبودين من دون الله الرزق لمن يعبدونهم، نفي بالأولى أن يملكوا الرزق لأي أحد؛ لأنهم إذا كانوا لا يستطيعون أن يرزقوا من يعبدهم ويتذلل إليهم، فكيف يرزقون من لا يعبدهم؟!!
ولأجل هذا خصص نفي ملكهم الرزق بالجار والمجرور (لهم)، ولأجل هذا أيضا قدم ذكر الجار والمجرور (لهم) على المفعول (رزقا) في قوله تعالى (ما لا يملك لهم رزقا) وليس "رزقا لهم"؛ بمعنى أنهم لا يملكون الرزق لمن يعبدهم خاصة، فهم لا يملكون لغير من يعبدهم بالأولى.
- (من السموات والأرض) فإذا كانوا لا يملكون رزقا من السموات والأرض، فهم لا يملكون أي رزق في أي مكان.
- (من السموات والأرض) تقدم ذكر السموات على الأرض؛ لأن السموات أعظم من الأرض، ولأن ما في السموات أكثر مما في الأرض، فقدم ذكر السموات من باب التدرج من الأعلى إلى الأدنى.
- (شيئا) تأكيد بأنهم لا يملكون أي شيء كان مهما قل أو صغر.
- (شيئا) مفعول به، وذلك إذا قلنا: إن (رزقا) مصدر، وتعرب على أنها بدل، وذلك إذا قلنا: إن (رزقا) مفعول به، وعلى الإعرابين فإن (شيئا) تدل على التأكيد والمبالغة بعجز الكفار أن يرزقوا غيرهم حتى أحقر شيء وأقله.
- (ولا يستطيعون) أي: إنهم لا يملكون رزقا لأحد في هذا الزمن الحاضر، ولن يستطيعوا مستقبلا؛ لأنهم مخلوقون، وإنما الخالق والرازق هو الله وحده سبحانه وتعالى.