(والله أنزل من السماء ماء فأحيا به الأرض بعد موتها إن في ذلك لآية لقوم يسمعون) (٦٥)
المفردات:
- آية: علامة ودلالة.
المعنى الإجمالي:
بعد أن بينت الآيات السابقة عظيم جرائم الكفار، وكشفت زيغهم، وأقامت الحجة عليهم، عادت الآيات لتبين وحدانية الله سبحانه وتعالى عن طريق بيان عظيم خلقه، كما بينت الآيات عظيم خلقه سبحانه وتعالى في أول هذه السورة حتى قوله تعالى (وعلامات وبالنجم هم يهتدون) (١٦).
فالله سبحانه وتعالى وحده هو الذي أنزل الماء من السحاب، وأخرج بهذا الماء النباتات بعد أن كانت الأرض جرداء ميتة، وفي إنزال الماء من السماء، وفي إحياء الأرض بعد موتها، لدلالة على وحدانية الله سبحانه وتعالى، ولكن هذه الدلالة عند من يسمع كلام الله سماع تدبر وليس سماع إنكار وكفران وإعراض.
المعنى التفصيلي:
- (والله أنزل من السماء) ابتدأت الآية بذكر لفظ الجلالة (الله) وليس بذكر الضمير "هو" بخلاف الآية العاشرة من هذه السورة (هو الذي أنزل من السماء ماء لكم منه شراب ومنه شجر فيه تسيمون) حيث ابتدأت الآية بذكر الضمير "هو" الذي يعود على الله سبحانه وتعالى، وليس بذكر الاسم الصريح "الله"، وذلك لأن الآية العاشرة جاءت في سياق آيات بيان عظيم خلقه سبحانه، وقد ذكر لفظ الجلالة في الآية التاسعة، فكأنه أغنى عن إعادة ذكر الاسم الصريح لقرب الذكر، وانظر - بارك الله فيك - في سياق الآيات:
(وعلى الله قصد السبيل ومنها جائر ولو شاء لهداكم أجمعين (٩) هو الذي أنزل من السماء ماء لكم منه شراب ومنه شجر فيه تسيمون (١٠))
أما في هذه الآية (والله أنزل من السماء) فلم يذكر لفظ الجلالة صريحا قبلها، وهذا أولا، وأما ثانيا: فإن في التصريح بلفظ الجلالة تعظيم للخبر المذكور.
- (والله أنزل من السماء) أي هو وحده سبحانه وتعالى من أنزل الماء من السماء، ولم يشاركه أحد في إنزال الماء، فكيف تشركون بالله سبحانه وهو المنعم وحده؟!
ولو قلنا في غير التنزيل "وأنزل الله من السماء" لما أفادت ما أفادته الآية من التعظيم لقدرة الله، ومن تخصيص تفرده بالأمر، وأنه ليس له شريك سبحانه.
- قدم الجار والمجرور (من السماء) في قوله تعالى (أنزل من السماء ماء) للاختصاص، لأن السماء هي مكان نزول الماء.
- ومن البدهي أن الماء ينزل من السماء، فلماذا ذكرت (السماء)؟
لقد ذكرت السماء في سياق نزول المطر لاستحضار صورة الماء النازل من السماء، استحضارا يتلازم عند المؤمنين واستحضار النعمة.
- (فأحيا) إنه إحياء سريع، فما أن ينزل المطر إلا ويخرج النبات، وتدب الحياة في أوصال الأرض، وهذا ما أفاده العطف بحرف الفاء.
- (فأحيا به الأرض) ذكر الجار والمجرور (به) قبل (الأرض)؛ لأن سياق الكلام بداية عن إنزال الماء من السماء.
- (فأحيا به الأرض بعد موتها) أي أحيا به نبات الأرض وأشجار الأرض، وموتها هو عكس هذا، وذكرت الأرض دون ذكر هذه الأشياء؛ لأنها مكان هذه المخلوقات من النباتات والأشجار، فأغنى ذكر الأرض عن ذكر الأشياء.
- (إن في ذلك لآية) (إن) ولام الابتداء (لآية) حرفا تأكيد.
- (في ذلك) وليس "فيه"؛ للإشارة إلى كل المذكور من إنزال الماء إلى إحياء الأرض بعد إماتتها.
- (لقوم يسمعون) والمقصود بالسماع هو لازم السماع، وهو التدبر والوعي، وليس سماع إنكار وكفران وإعراض، أو سماع غفلة وتغافل.
- والتأكيد بـ (إن) ولام الابتداء (لآية)؛ للدلالة على أن أمر الاهتداء إلى وحدانية الله من خلال آية إنزال المطر وإحياء الأرض، هو أمر لا يحتاج إلى كبير عناء، فإنه يحتاج إلى سماع تدبر - فقط - حتى يعرف السامع الحق (لآية لقوم يسمعون)؛ لأن آية إنزال المطر وإحياء الأرض به، آية عظيمة ظاهرة باهرة يراها الصغير والكبير، ويدرك استحالة تحكم المخلوق فيها كل من له ذرة عقل.
- وجاء التعبير بـ "قوم" في قوله تعالى (لقوم يسمعون) للإشارة إلى أن المقصودين هم من أصبح سماع التدبر صفتهم التي عليها يجتمعون، ولأجل هذه الصفة المشتركة استحقوا إطلاق "قوم" عليهم، وليسوا ممن سمعوا سماع تدبر مرة واحدة أو عدة مرات متفرقة، وفي غير ذلك لا يسمعون إلا سماع إعراض وإنكار، وهذا ما يفيده الفعل المضارع، من أن سماعهم متجدد متكرر، وليس سماع واقعة واحدة.
- وفي قوله تعالى (إن في ذلك لآية لقوم يسمعون) تعريض بالكفار بأنهم لا يسمعون، وأن هذا هو سبب عدم اتعاظهم بآية إنزال الماء وإحياء الأرض بعد موتها.
- قد يقول قائل: إن آية إنزال الماء وإحياء الأرض آية منظورة بالعين، فلماذا لم يأت نص الآية بـ "لقوم يبصرون"؟!
لم يأت نص الآية بـ "لقوم يبصرون"؛ لأن آيات الكون المنظورة تحتاج إلى آيات القرآن المسموعة حتى تعتبر العقول العبرة الصحيحة الكاملة، وأضرب مثلا على ذلك: كلنا يرى آيات الله في الكون، من خلق الإنسان وخلق الحيوان والأشجار والأفلاك ... ، ويعقل الإنسان من هذا الذي أبصره أن للكون خالقا، ولكن من هو الخالق؟ وما هي صفاته؟ وما هي حقوقه علينا؟ إلى غير ذلك من الاستفسارات .. كل هذا لا يجاب عنه ولا نعرف حقيقته إلا عن طريق الوحي، وهو طريق السماع، وكفار مكة كانوا يبصرون هذه المخلوقات، ويرون هذه الآيات الكونية، ويؤمنون أن لهذا الكون خالقا (ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض وسخر الشمس والقمر ليقولن الله فأنى يؤفكون) (العنكبوت: ٦١) ولكنهم برغم إيمانهم يشركون مع الله، وسبب هذا الشرك هو أنهم لا يسمعون كلام الله الذي يبين من هو الخالق؟ وما هي صفاته؟ وما هي حقوقه علينا؟ إنه الله الواحد الصمد الذي لا شريك له.
هذه الآية (والله أنزل من السماء ماء فأحيا به الأرض بعد موتها إن في ذلك لآية لقوم يسمعون) (النحل: ٦٥) دليل على وحدانية الله سبحانه وتعالى، وليس دليلا - فقط - على أن الله هو الخالق، وما يؤمن به المشركون هو أن الله خالق ولكنه ليس واحدا، ولكن عندما يسمعون آيات الله سماع تدبر يؤمنون بأن إنزال الماء وإحياء الأرض دليل على وحدانيته سبحانه وتعالى.