(ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون) (١١٦)
المفردات:
- تفتروا: تدعوا الكذب.
المعنى الإجمالي:
بعد أن أمر الله - سبحانه وتعالى - المؤمنين أن يأكلوا الحلال الطيب وبين ما عليهم اجتنابه من المحرمات، تنهى هذه الآية المؤمنين أن يتبعوا سبيل المشركين في التحليل والتحريم على مبدأ الهوى دون شريعة من الله سبحانه وتعالى.
وتبين هذه الآية - أيضا - أن الذي يحرم ويحلل من تلقاء نفسه إنما يفتري على الله الكذب، وسوف يكون من الخاسرين الذين يلقون سوء العذاب بسبب افترائهم.
وهذا كقوله تعالى (قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراما وحلالا قل آلله أذن لكم أم على الله تفترون) (يونس: ٥٩) وكقوله تعالى (وقالوا ما في بطون هذه الأنعام خالصة لذكورنا ومحرم على أزواجنا وإن يكن ميتة فهم فيه شركاء سيجزيهم وصفهم إنه حكيم عليم) (الأنعام: ١٣٩)
المعنى التفصيلي:
- قيل: عاد الخطاب إلى المشركين، ولذا فإن الآية معطوفة على (وضرب الله مثلا قرية ... ) (سورة النحل: ١١٢).
ولكن الأظهر حمل الآية على أنها خطاب للمؤمنين؛ ليحذروا من سبيل المشركين في التشريع وفق أهوائهم دون وحي من الله سبحانه وتعالى.
والأظهر حملها على أنها خطاب للمؤمنين؛ لأن استقامة الكلام على نسق واحد أبلغ، ولأن استقامة الكلام على نسق واحد أبلغ؛ فقد حدا هذا ببعض المفسرين أن يقولوا بأن الخطاب كان موجها للكافرين في قوله تعالى (فكلوا مما رزقكم الله حلالا طيبا واشكروا نعمت الله إن كنتم إياه تعبدون) (النحل: ١١٤)؛ مستدلين بأن استقامة الكلام على نسق واحد أبلغ؛ لأنهم ظنوا أن أن الأمر بالأكل والشكر كان للمشركين، ولا داعي للرد على هذا من جديد فقد سبق بيان الدليل على أن الأمر بالأكل والشكر كان للمؤمنين وليس للمشركين.
وفي حمل الآية على أنها خطاب للمؤمنين ليحذروا من سبيل المشركين في التشريع وفق أهوائهم دون وحي من الله سبحانه وتعالى، توجيه حسن مع بقاء الكلام على نسق واحد.
- (ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام) واختلف في معنى هذه الآية، وأهم ما قيل في بيانها هو:
أولا: أن يكون "الكذب" مفعولا به لـ "لا تقولوا"، وهذا هو الإعراب الأول، ويترتب على ذلك تقديران:
التقدير الأول: ولا تقولوا الكذب هذا حلال وهذا حرام في شأن ما تصفه ألسنتكم من رزق الله بالحل والحرمة. واللام هنا بمعنى "عن"، وهي من قبيل اللام في قوله تعالى (ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات ... ) (البقرة:١٥٤) أي: ولا تقولوا عن من يقتل في سبيل الله أموات.
التقدير الثاني: ولا تقولوا الكذب هذا حرام وهذا حلال لأجل وصف ألسنتكم من غير حجة ولا برهان.
والإعراب الثاني: أن يكون "الكذب" مفعولا به للمصدر المؤول من "ما" المصدرية والفعل "تصف".
وعلى هذا يكون التقدير: ولا تقولوا هذا حرام وهذا حلال لأجل وصف ألسنتكم الكذب.
وكون "اللام" للتعليل أرجح؛ لأن النص على بطلان مصدر التشريع (لما تصف ألسنتكم الكذب) أقوى من النص على كذب القول الناشئ عن المصدر؛ لأن الطعن في الأساس أبلغ من الطعن في الفرع، والأساس هو: ما تصفه الألسن من كون هذه سائبة أو بحيرة أو وصيلة، والفرع هو: القول بأن هذا حلال وهذ حرام بناء على ما سبق من وصف.
- وجاء التعبير بإسناد الكذب إلى ألسنتهم (تصف ألسنتكم) وليس "يصفون"، زيادة في بيان بشاعة فعلهم، فهؤلاء يفترون الكذب على الله بألسنتهم التي خلقها الله كي تذكره (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون) (الذاريات: ٥٦).
فكل عضو في أجسادنا ما خلقه الله إلا ليكون في طاعته، ومن أعلى هذه الأعضاء - إن لم يكن أعلاها - اللسان، فبه يذكر الله، وبه يقال الحق، ومن هنا تظهر بشاعة استعمال الألسن في الافتراء على الله سبحانه وتعالى.
- (تصف ألسنتكم الكذب) فألسنتهم تصف الكذب ذاته، لا شيئا قريبا منه، ولا شيئا مخلوطا بالحق، بل ما تصفه ألسنتهم هو عين الكذب، وذات الكذب.
فمن الناس من لا يتجرأ على قول الكذب خالصا، فيخلطه ببعض الصدق، ولكن كفار قريش ومن سار على نهجهم، بلغوا من القحة مبلغا عظيما، حيث يقولون الكذب خالصا، بلا حياء ولا خجل، ولا قلق ولا وجل.
- (هذا حلال وهذا حرام) وقدم ذكر التحليل على التحريم؛ لأن أهواء البشر تميل للتحليل لما فيه من الانفلات والاسترسال والسهولة.
- (لتفتروا على الله الكذب) و"اللام" لام العاقبة، أي: تحللوا وتحرموا بناء على أهوائكم فتكون النتيجة أنكم تفترون على الله الكذب؛ لأنكم تحلون وتحرمون وتزعمون أن هذه هي الشريعة الحقة، ومن قال لكم إن هذه هي الشريعة الحقة؟! ولا يحكم على أن الشريعة حق أو باطل إلا الله وحده، فأنتم تفترون على الله حينما تقولون: إن هذا هو الحق الذي يجب اتباعه!!!
قيل: إن "اللام" في (لتفتروا) للتعليل. وهذا ضعيف؛ لأن من يتعمد التحليل والتحريم من غير شرع الله - سبحانه وتعالى - فإنه يفتري على الله الكذب ولا ينظر إلى نيته: هل يريد الافتراء على الله أم لا؟
ومثل هذا ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم - بسند حسن - أنه قال: " أيما أمرأة استعطرت فمرت بقوم ليجدوا ريحها فهي زانية" (مسند أحمد بن حنبل ج٤/ص٤١٣) فنهي المرأة عن الاستعطار ليس مشروط بنيتها؛ لأن "اللام" في (ليجدوا) هي لام العاقبة، أي من استعطرت فمرت بقوم فإن النتيجة هي أنهم سيجدون ريحها. ولذا جاء الحديث بلفظ آخر دون "اللام"؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "كل عين زانية، والمرأة إذا استعطرت فمرت بالمجلس فهي كذا وكذا. يعني: زانية " قال أبو عيسى هذا حديث حسن صحيح (سنن الترمذي ج٥/ص١٠٦) وهذا سند حسن.
- (لتفتروا) أي: لتدعوا الكذب، وهذا الادعاء متعمد، لأن أصل الافتراء "القطع"، فهم يفترون على الله الكذب، أي يقطعون به، وليس مجرد تكذيب في سياق التفكير والبحث عن الحق.
والافتراء يستعمل في التعبير عن الكذب، ولكنه ليس هو الكذب، بل استعمل فيه، وانظر إلى قوله تعالى (انظر كيف يفترون على الله الكذب) (النساء:٥٠) (ولكن الذين كفروا يفترون على الله الكذب) (المائدة: ١٠٣) وغير ذلك من الآيات.
ووجه الشاهد أن الافتراء استعمل في الكذب، ولكنه ليس الكذب؛ لأنهم يفترون الكذب، والافتراء في أصله هو القطع.
- (إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون) (إن) للتأكيد، والتعبير بالاسم الموصول (الذين) وليس "المفترين"؛ للتشهير بالمشركين، (لا يفلحون)؛ لأن مأواهم عذاب النار، وبئس العذاب، وبئس المآل.
- الأصل في ترتيب الجملة: "ولا تقولوا هذا حلال وهذا حرام لما تصف ألسنتكم الكذب"، ولكن جاء ترتيبها في الآية (ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام)؛ لأن نقض أصل التشريع - وهو: الهوى - هو الأهم، فنبه عليه باعتراض سياق الكلام بـ (لما تصف ألسنتكم الكذب).
- جاء الالتفات من أسلوب الخطاب (ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب) إلى أسلوب الغيبة (إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون)؛ لأن المخاطب هم المؤمنون، فناسب أسلوب الخطاب تحذيرهم، وجاء أسلوب الغيبة في قوله تعالى (إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون)؛ لأنه إخبار للمؤمنين عن عقاب من يفتري، ولا يستقيم التعبير بأسلوب الخطاب "إنكم افتريتم على الله الكذب فلن تفلحوا"؛ لأن المؤمنين لم يفتروا على الله الكذب، إنما وعظوا بمصير من افترى. فتأمل رعاك الله.