(يتوارى من القوم من سوء ما بشر به أيمسكه على هون أم يدسه في التراب ألا ساء ما يحكمون) (٥٩)
المفردات:
- يتوارى: يختفي.
- هون: ذل.
- يدسه: يدفنه، والدس إدخال شيء في شيء.
المعنى الإجمالي:
تكمل هذه الآية مشهد المشرك الذي يبشر بالأنثى، إنه يخزى أمام قومه، ولذا فهو يختفي منهم، ويبدأ صراعه النفسي بين إبقاء ابنته حية، رغم الذل الذي سيصيبه أمام قومه، وبين أن يدفنها في التراب ليتخلص منها.
وهذا الذي تواطأ عليه المشركون، وجعلوه شرعة متبعه، هو سوء عظيم، وجهل وخيم.
المعنى التفصيلي:
- (يتوارى) يستتر ويختفي، يقال: واريت كذا إذا سترته.
- وبعد نزول هذه المصيبة على الجاهلي يتوارى من القوم، أي يختبئ حياء؛ بسبب سوء ما بشر به.
ولكن لماذا يستحيي من الأنثى؟ يستحيي لأن كل واحد يرى الأمر من جهته، فالفاسق الماجن يرى الأنثى مجونا، والطائع لله يرى الأنثى زوجة صالحة، أو أما حانية، أو أختا مشفقة، أو بنتا صالحة حانية مشفقة راعية.
- وجاء التعبير بالفعل المضارع (يتوارى) لاستحضار الصورة، كأنها صورة حاضرة في الذهن الآن، رجل يبشر بالأنثى وهو يحاول الاختفاء والتستر.
- (من القوم) إنها سطوة النظرة المجتمعية، التي تجعله يسير وفق الخطأ، وإذا وقع له ما لا يرضاه قومه، توارى منهم، وإن لم يستطع حاول أن يتوارى منهم.
- (من سوء ما بشر به) (من) سببية، أي أنه يتوارى بسبب ما بشر به من ولادة الأنثى.
- ولكن كيف يكون سوءا ويبشر به (من سوء ما بشر به)؟
سمي التبشير بالأنثى سوءا بالنسبة لما يشعر به المشركون، وسمي تبشيرا بناء على حقيقته، أي هو يختفي من سوء ما استشعره من البشارة.
فالبشارة قائمة على حقيقتها، والسوء أقامه المشركون في نفوسهم بسبب البشارة.
- (أيمسكه على هون أم يدسه في التراب) إنها حيرة حارقة، يحتار هذا الجاهلي في أن يمسك هذه البنت رغم الهون، وهو الذل، أم يدسها في التراب، أي يدفنها و يئدها، خياران أحلاهما مر، إما الذل، وإما القتل، أي قتل هذا؟ إنه قتل طفلة بريئة، وأي طفلة هذه؟ إنها طفلة القاتل .....
ما كان يفعله أهل الجاهلية هو الجهل بعينه، هو الظلم والكفر والطغيان والغباء، سمه ما شئت، أيقتل الأب ابنته الرضيعة؟! إن هذا لجهل عظيم (وإذا الموءودة سئلت (٨) بأي ذنب قتلت (٩)) (التكوير)
فجاء الإسلام ليخرج الناس من الظلمات إلى النور، وليخبرنا أن الأنثى خلق الله، وقد جاءت بإرادة الله، لأن الله يفعل ما يشاء ويخلق ما يشاء.
- ولكن لماذا جاء التذكير في (أيمسكه) و (يدسه) مع أن المولود أنثى؟
جاء التذكير باعتبار لفظ (ما) في قوله تعالى (ما بشر به).
- (ألا ساء ما يحكمون) (ألا) حرف تنبيه يفيد التأكيد على سوء حكمهم وبشاعته، و (ما) مصدرية، أي: معنى (ما يحكمون) حكمهم.
- وأسند الفعل إلى الجماعة (يحكمون)؛ لأن هذا الظلم تواطأ عليه المشركون، واعتبروه حقا للآباء، (ألا ساء ما يحكمون).
- وجاء الإسلام لبين لنا أن هذه السموات وما فيهن، وهذه الأرض وما عليها وما فيها، كل هذا ملك لله يخلق ما يشاء، كيف شاء، في أي وقت شاء؛ لأنه صاحب الملك، وصاحب الأمر (يهب لمن يشاء إناثا) والتعبير بالهبة يدل على أننا نعطى هذه الذرية من الله عطاء، فهذا الماء المهين لا يصير إنسانا باجتهادنا ولا بعملنا، إنه خلق الله يهبه لنا، فمن يرفض هبة الرب سبحانه يغضب عليه، فنحن البشر لا نرضى أن ترد هباتنا، فكيف بالعظيم الكريم، فكيف بصاحب الملك والأمر سبحانه وتعالى رب العرش العظيم.
الله يهب لمن يشاء إناثا فقط، ويهب لمن يشاء ذكورا فقط، ويهب لمن يشاء إناثا وذكورا، ويجعل من يشاء من عباده عقيما لا ولد له، سبحانه ما أعلمه، سبحانه ما أحكمه.
(لله ملك السماوات والأرض يخلق ما يشاء يهب لمن يشاء إناثا ويهب لمن يشاء الذكور (٤٩) أو يزوجهم ذكرانا وإناثا ويجعل من يشاء عقيما إنه عليم قدير (٥٠)) ... (الشورى)
فرفض هبة الله ذنب عظيم، فنحن أهل الإسلام وأهل الحق، كيف نعمل عمل أهل الجاهلية؟!
كيف تكره أيها الزوج أن يولد لك بنت، بل وتغضب على زوجتك، كأنها أتت به من تلقاء نفسها؟!
بل والله إني لأعرف منهم من بلغ مبلغا في علم الطب، وصار على معرفة عظيمة في أمور الولادة، ويعلم أن زوجته لا تختار جنس المولود، لكنه عندما رزق أنثى ظل وجهه مسودا وهو كظيم، أهذا هو الالتزام بدين الله؟!!
وماذا تفعل هذه الزوجة المسكينة في كثير من الحالات عند ولادتها أنثى، وهي تعلم كم سيغضب زوجها؟! ماذا تفعل؟! إنها تبكي، أو يصيبها الحزن الشديد.
ولا تسل عن أهل الزوج في كثير من الحالات، يلقون عبارات اللوم على الزوجة كأنها من اختار الأنثى.
بل ومن عجيب الجهل في عصر بينه وبين الجاهلية قرون، أنهم يهنئون التي تلد أنثى أو يولد له أنثى بقولهم: عوض الله عليك!
يسألون الله أن يعوض له خسارته. علما بأن أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم بينت فضل تربية الأنثى، وأذكر من هذه الأحاديث:
- عن عائشة رضي الله عنها قالت: دخلت امرأة معها ابنتان لها تسأل، فلم تجد عندي شيئا غير تمرة، فأعطيتها إياها فقسمتها بين ابنتيها ولم تأكل منها، ثم قامت فخرجت، فدخل النبي صلى الله عليه وسلم علينا، فأخبرته، فقال: من ابتلي من هذه البنات بشيء كن له سترا من النار. (البخاري: ١٣٢٩) واللفظ له (مسلم: ٤٧٦٣)
- قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من عال جاريتين حتى تبلغا، جاء يوم القيامة أنا وهو، وضم أصابعه. (مسلم: ٤٧٦٥)