(جنات عدن يدخلونها تجري من تحتها الأنهار لهم فيها ما يشاءون كذلك يجزي الله المتقين) (٣١)
المفردات:
- عدن: استقرار وثبات.
المعنى الإجمالي:
لما بشرت الآية السابقة المتقين بالجنة، جاءت هذه الآية لتبين حقيقة الجنة بيانا عاما، فهي دار إقامة واستقرار وخلود، ولمن يدخلها الفرح الدائم؛ لأن له فيها ما يشاء، وكل هذه النعم جعلها الله للمتقين.
المعنى التفصيلي:
- الجنة التي بشر الله - سبحانه وتعالى - بها المؤمنين حق، وهي مخلوقة الآن، لا تفنى ولا تزول.
فالنبي صلى الله عليه وسلم رأى جبريل مرة أخرى في السموات عند شجرة السدر التي عندها جنة الخلد، قال تعالى:
(ولقد رآه نزلة أخرى (١٣) عند سدرة المنتهى (١٤) عندها جنة المأوى (١٥) إذ يغشى السدرة ما يغشى (١٦) (النجم)
فهي جنة موجودة وقت معراج النبي صلى الله عليه وسلم.
وأيضا فإن الجنة هي مأوى الشهداء، وهم يرزقون فيها، ولو لم تكن مخلوقة لما كانت مأواهم، قال تعالى:
(ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون (١٦٩) فرحين بما آتاهم الله من فضله ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون (١٧٠)) (آل عمران).
وعن مسروق قال سألنا عبد الله عن هذه الآية (ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون)
قال: أما إنا قد سألنا عن ذلك فقال (أي النبي صلى الله عليه وسلم): أرواحهم في جوف طير خضر لها قناديل معلقة بالعرش تسرح من الجنة حيث شاءت ثم تأوي إلى تلك القناديل، فاطلع إليهم ربهم اطلاعة فقال: هل تشتهون شيئا؟ قالوا أي شيء نشتهي ونحن نسرح من الجنة حيث شئنا ففعل ذلك بهم ثلاث مرات، فلما رأوا أنهم لن يتركوا من أن يسألوا قالوا: يا رب نريد أن ترد أرواحنا في أجسادنا حتى نقتل في سبيلك مرة أخرى فلما رأى أن ليس لهم حاجة تركوا (مسلم: ٣٥٠٠)
- جاء التعبير بـ (جنات) وليس "جنة"؛ لأنها جنان وليست جنة واحدة.
قال أنس رضي الله عنه أصيب حارثة يوم بدر وهو غلام فجاءت أمه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله قد عرفت منزلة حارثة مني، فإن يكن في الجنة أصبر وأحتسب، وإن تك الأخرى ترى ما أصنع، فقال: (ويحك أو هبلت أو جنة واحدة هي؟! إنها جنان كثيرة، وإنه في جنة الفردوس) (البخاري: ٣٦٨٣)
- (عدن) أي: إقامة، يقال: عدنت بالبلد: توطنته وأقمت به، فهي جنات إقامة واستقرار، لا خروج منها، ولا زوال عنها، فاز من كانت الجنة داره، وخاب من دخل النار وكان فرعون جاره، نسأل الله السلامة من النار!
- الضمير في (يدخلونها) يعود على المتقين المذكورين في الآية السابقة.
- بينت الآية السابقة أن الجنة هي دار المتقين، فما فائدة ذكر دخول المتقين إليها؟
جاء ذكر الدخول في الآية (جنات عدن يدخلونها)؛ لأنها مقابلة لقوله تعالى السابق في السورة (فادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها فلبئس مثوى المتكبرين) (النحل: ٢٩)، فكما أن الكفار يدخلون النار فأهل الجنة يدخلون الجنة، وشتان شتان بين الأمرين!
- ولكن لماذا جاء التعبير في هذه الآية بصيغة المضارع (يدخلونها)؟
جاء التعبير بصيغة المضارع على الأصل؛ لأن الفعل المضارع دال على الحال والاستقبال، ولكن للفعل المضارع - أيضا - أثر في استحضار الصورة في الذهن.
أما الكفار فجاء التعبير في حقهم بصيغة الأمر (فادخلوا)؛ لأن الكفار لا يدخلون النار بإرادتهم بل جبرا عنهم.
ولكن إذا استخدمت صيغة الأمر في حق المؤمنين لدخول الجنة، فإنما تكون للإكرام لا للإجبار، لأن دخول الجنة أمر مرغوب، ودخول النار أمر مرهوب، وشتان بين الأمرين، ولذا يفهم فعل الأمر (ادخلوا) بناء على المرغوب والمرهوب.
- لماذا ذكرت الأبواب في سياق دخول الكفار النار، ولم تذكر الأبواب في سياق دخول المؤمنين الجنة، قال تعالى (جنات عدن يدخلونها) وقال أيضا (وقال لهم خزنتها سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين) (الزمر: ٧٣).
بينما قال تعالى في شأن دخول الكفار النار (فادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها فلبئس مثوى المتكبرين) (النحل:٢٩) وقال أيضا (قيل ادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها فبئس مثوى المتكبرين) (الزمر:٧٢)؟
الجواب عن هذا أن الكفار لا يدخلون أبواب النار وفق إرادتهم وهواهم، بل يرغمون على دخول باب معين، ويبين هذا قوله تعالى (وإن جهنم لموعدهم أجمعين (٤٣) لها سبعة أبواب لكل باب منهم جزء مقسوم (٤٤)) (الحجر) أي: لكل باب من أبواب جهنم صنف من الكفار خاص به.
بينما المؤمنون لهم الحرية في دخول أبواب الجنة الثمانية، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من قال أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله وأن عيسى عبد الله وابن أمته وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه وأن الجنة حق وأن النار حق أدخله الله من أي أبواب الجنة الثمانية شاء (البخاري: ٣١٨٠) (مسلم: ٤١).
فالمؤمنون يدخلون الجنة كيف شاؤوا؛ أما الكفار فذكرت الأبواب في شأن دخولهم (فادخلوا أبواب جهنم) من باب الإشارة إلى أن (لكل باب منهم جزء مقسوم) (الحجر:٤٤).
- (تجري من تحتها الأنهار) وهذه الأنهار ليست فقط من ماء، فمنها ما هو من ماء، ومنها ما هو من خمر، وكذلك منها ما هو من لبن "حليب "، ومنها ما هو من عسل، قال تعالى:
(فيها أنهار من ماء غير آسن وأنهار من لبن لم يتغير طعمه وأنهار من خمر لذة للشاربين وأنهار من عسل مصفى) (محمد: ١٥)
- قدم ذكر الجار والمجرور (من تحتها) على الفاعل (الأنهار) في قوله تعالى (تجري من تحتها الأنهار)؛ لأن سياق الحديث هو عن الجنة، والضمير في (تحتها) يعود على الجنة، فناسب تقديم الجار والمجرور؛ ليكون السياق ألصق بالتركيز على الحديث عن الجنة.
- قدم ذكر الجار والمجرور (فيها) في قوله تعالى (لهم فيها ما يشاءون)؛ لأن الكلام منصب على وصف الجنة، والضمير في (فيها) يعود على الجنة، فناسب تقديم الجار والمجرور؛ ليكون السياق ألصق بالتركيز على وصف حال الجنة.
بينما قال تعالى في سورة (ق: ٣٥) (لهم ما يشاءون فيها ولدينا مزيد) فأخر ذكر الجار والمجرور (فيها)، فلماذا هذا الاختلاف؟
للجواب عن هذا التساؤل تدبر معي - رعاك الله! - سياق الآيات:
(وأزلفت الجنة للمتقين غير بعيد (٣١) هذا ما توعدون لكل أواب حفيظ (٣٢) من خشي الرحمن بالغيب وجاء بقلب منيب (٣٣) ادخلوها بسلام ذلك يوم الخلود (٣٤) لهم ما يشاءون فيها ولدينا مزيد (٣٥)) (ق)
فأنت ترى أن موضوع السياق منصب على ما أعطى الله المؤمنين الأوابين الحافظين، الخائفين من الله بالغيب، الراجعين إلى الله بقلب سليم، حيث تقرب لهم الجنة، ويرحب بهم ليدخلوها، ولهم ما يشاؤون في الجنة، بل ومزيد على ما يشاؤون مما لم يخطر ببالهم، فناسب أن يقدم ذكر مشيئتهم، لأنها مزية وأي مزية.
ففي الآية التي قدم فيها الجار والمجرور على ذكر المشيئة (لهم فيها ما يشاءون)، كان الكلام منصبا على وصف الجنة فناسب التقديم لإبراز موضوع وصف الجنة في السياق (لهم فيها) أي الجنة، وبعد إبراز ذكر الجنة جاء النص (ما يشاءون).
وفي الآية التي أخر فيها الجار والمجرور عن ذكر المشيئة (لهم ما يشاءون فيها ولدينا مزيد)،كان الكلام فيها منصبا على ذكر ما للمؤمنين من الخير، فناسب تقديم ذكر المشيئة (لهم ما يشاءون) أي المؤمنون، وبعدها جاء ذكر الجنة (فيها).
- (كذلك يجزي الله المتقين) أي كهذا الجزاء يكون جزاء المتقين.
ولكن السؤال الذي لابد منه هو أنه جاء في الآية السابقة (ولدار الآخرة خير ولنعم دار المتقين) ثم جاءت هذه الآية (جنات عدن يدخلونها تجري من تحتها الأنهار لهم فيها ما يشاءون) أي أن دار المتقين هي الجنة، فلماذا ختمت هذه الآية بـ (كذلك يجزي الله المتقين) ما دام أنه ذكر في الآية السابقة أنها دار المتقين؟
الجواب عن هذا أن الألف واللام في (المتقين) - في الآية السابقة - للعهد، وفي (المتقين) - في هذه الآية - للجنس، أي أن (المتقين) الذين ذكرتهم الآية السابقة هم من سئل عن الذي أنزله الله فقالوا: خيرا، وأن هذه الجنات الموصوفة هي لهم، و (كذلك يجزي الله) باقي (المتقين) جنات تجري من تحتها الأنهار.